بهجت العبيدي يكتب : في الهوية ... عناصر عن عمد مخفية

بهجت العبيدي يكتب : في الهوية ... عناصر عن عمد مخفية
بهجت العبيدي يكتب : في الهوية ... عناصر عن عمد مخفية
ما من شك في أن السياسة الحاكمة في أية جماعة بشرية تعمل على تكريس المفاهيم الخاصة بها، هذه المفاهيم التي تحول نظام الحكم - خاصة في دول العالم الثالث - إلى عقيدة في نفوس أبناء هذه الجماعة البشرية، ولقد كان - ومازال - هناك  في عالمنا العربي أمثلة صارخة تأخذنا إلى دروب من التيه عانت منه الهوية الثقافية الوطنية، خاصة وأن مجتمعنا العربي مجتمع اثني، بل متعدد على مستويات عدة، تبدأ بالدين ولا تنتهي به. 
يمكن تعريف الهوية الوطنية (National identity) على أنها مجموعة من الصفات والسمات المجتمعية والتي تختلف من مكان لآخر، ويقوم الفرد المواطن بامتلاكها نسبة للمجتمع الذي ينتمي إليه، ولكل مجتمع سماته وخصائصه التي يتميز بها مما يجعل من هويته الوطنية مختلفة عن باقي المجتمعات، وتعكس الهوية الوطنية روح الانتماء لدى أبناء الوطن الواحد وهي التي عليها يرتفع شأن "الأمة" وتزدهر، ومن دون الهوية الوطنية تفقد الأمة معنى الاستقرار، الهوية هي أحد أشكال القومية الوطنية التي يختار الفرد طواعية أن يعيشها.
أن الهويّة الثقافيّة - كما هو متعارف عليها - هي عبارة عن ثقافةٍ ما، أو هويّة لمجموعةٍ ما أو شخصٍ ما نظراً لإمكانيّة تأثر هذا الشخص بهويّة المجموعة الثقافيّة، أو ثقافته التي ينتمي إليها. 
وإذا أضفنا كلمة وطنية لهذا التعريف، فإن ذلك يصبغ هذه الهوية بصبغة الوطن الذي هو هنا عالمنا العربي، والذي هو ليس كله - كما يبدو - كتلة واحدة أو مجرد مساحة ممتدة، تشكّل أبناءها من المحيط إلى الخليج بصبغة واحدة، منتجة نموذجا واحدا، ذاك الذي لا يتفق مع الواقع مرة، ولا ينسجم من العقل مرة أخرى، حيث أن لكل بيئة من بيئات عالمنا العربي ثقافة متباينة عن الأخرى، بل في الدولة الواحدة هناك هويات ثقافية مختلفة، ولا نكون مبالغين إن قلنا أن هناك هويات ثانوية تشكل البيئات الأصغر داخل البيئة الأكثر اتساعا. 
وإذا كان  مصطلح الهويّة الثقافيّة يماثل أو يتقاطع مع مصطلح سياسة الهويّة؛ حيث إنّ الهويّة هي ذات الفرد، وتتضمن في معناها عدداً من القيم والمعايير، وتشكّل ثقافة الإنسان ومدى معرفته في عددٍ من المجالات المختلفة، إضافةً إلى إلمامه ووعيه بالقضايا المحيطة به في المجتمع، حيث إنّها تمثّل التراث الفكري له. 
فإن ذلك الذي يُظْهر لنا بجلاء ما يمكن أن تلعبه السياسة الحاكمة في تغيير وتبديل أو بالأحرى محاولة تغيير وتبديل الهوية الثقافية للفرد ومن ثم الهوية الثقافية الوطنية، والتي هناك العديد من الوسائل للتأثير فيها، خاصة في ظل المتغيرات الحديثة في وسائل الإعلام التي أصبحت المُشَكّل الأكثر سرعة والأقوى خطرا على الهوية الثقافية للفرد، الذي يتم استهدافه من السياسة الحاكمة على مدار الوقت، من خلال بث ثقافة لهوية معينة، يرى الحاكم فيها حفاظا وحماية لنظامه الذي يسعى إلى ترسيخه. 
وإذا حاولنا أن نضع عالمنا العربي تحت مجهر البحث في هذا الجانب الحيوي، لوجدنا السياسة الحاكمة ساعية لصبغ مجتمعها بالصبغة التي ترى فيها تدعيما لسلطتها، والتي تتراوح ما بين ثلاثة مظاهر: 
- الأول يتخذ من الدين "الإسلامي بمفهومه الضيق" وسيلة متجاهلا كافة العوامل والثقافات المختلفة التي ساهمت بشكل فاعل في تكوين الهوية الثقافية، وهنا نجد تجاهلا متعمدا في هذا العامل الديني، فلا نكاد نلمح أثرا لدين آخر رغم أن الدين الإسلامي هو الدين الأخير الذي انتشر في المنطقة، ولعل أوضح مثال على ما نقول هو تجاهل كافة مظاهر مشاركة الدين المسيحي في المشاركة  صنع هوية المنطقة، أو فلنقل أنه يتم عمدا إخفاء أو إلغاء كافة المظاهر المسيحية التي تسهم في صنع تلك الهوية.
- الثاني يتخذ القومية "هنا العربية مثالا": نظام ناصر وصدام والقذافي معليا القومية على ما عاداها من مكونات للهوية الثقافية، في ذات الوقت الذي لا ندرك كيف يتم طمس العناصر التي انتقلت أو فلنقل تشابكت مع عناصر الهوية العربية والتي هي متأخرة بل الأخيرة في أغلب بلدان المنطقة التي اصطلح على تسميتها بالعالم العربي، فلا نجد شبه أثر، مثلا لمفهوم الأمة المصرية التي لا يمكن بحال من الأحوال اختزال هويتها في العربية الإسلامية.
- الثالث يتخذ الاستغراق في المحلية والعودة إلى الجذور البعيدة كمكون أول للهوية الثقافية التي يسعى لترسيخها، هذا الذي يمكن أن يهدد مفهوم الهوية في تعريفها الشامل والذي يجب أن يكون ممتدا على استقامته، فلا يتم اقتطاع جزء من تاريخ ممتد ليتم تشكيل الهوية منه، ولا يجب أن يتم تجاوز أي من العناصر المساهمة في تشكيل تلك الهوية.
إن من الخطورة بمكان تلك المحاولات المستمرة من بعض النظم الحاكمة، في التأثير بوعي وعمد ولمصلحة خاصة ضيقة التأثير في الهوية الثقافية الوطنية، خاصة في ظل عالم جديد يسعى سعيا حثيثا للقضاء على الهويات الخاصة للشعوب فيما يعرف بالعولمة، التي تهدف إلى فرض نموذج واحد وثقافة واحدة، وهوية وحيدة، والتي هي بكل تأكيد هوية المنتصر الحالي، وهو الغربي في المطلق، تلك العولمة التي تهدد تهديدا مباشرا الهويات المحلية، والتي يجب على الأنظمة الحاكمة ألا تساعدها، بتهميش الهويات الثقافية الوطنية المختلفة التي تتمتع بها البيئات المتعددة، فالعمل على تثبيت هوية ونزع أخرى من قبل نظم حاكمة نرى أنه هو اللحظة الملائمة لفقدان وضياع الهويات الثقافية الوطنية، وهو في ذات اللحظة الحالة المناسبة للانصهار والذوبان في ثقافة هوية العولمة التي تسعى لها الدول الأكثر قوة والأعلى ثقافة والأعظم هيمنة. 
ونحن نتفق مع الباحثة الجزائرية بريجـة شريفـة فيما ذكرت في رسالة الدكتوراه "التغيرات  السوسيو- ثقافية  وأثرها على  الهوية الثقافية للمجتمع الجزائري" حينما أكدت 
أن الثقافة والهوية الثقافية يتماشيان باتجاه مترابط، فالثقافة بحاجة للهوية كوسيلة تحمي الميراث الثقافي، وبالمقابل الثقافة تساهم في تطور الهوية لدى الشعوب وتقدم لهم اختياراتهم في الانتماء.
فالهوية الثقافية كمفهوم حديث، يُمثل بناء مستمر على طول الحياة ويُوضح الاختلاف الموجود بين حاملين الثقافة، وعلاقتهم مع مختلف الثقافات  لهذا يستلزم البحث في هوية كل ثقافة وخاصيتها، كونها مُلمة ولها فضاء مُحدد وواضح، وبالتالي الهوية لا تكتسي صفة الكونية  كما يعتقد البعض.