أبو راتب العاملُ المخلصُ في معملٍ حكوميّ ناءٍ عن بيته ،كان يصلُ إليه ويعود منه ماشياًفي أوقاتٍ منتظمة ،حتّى أنّ من يراه على الدرب ذهاباً وإياباً يعلم الساعة بدقّة ، وهو يطوي سفح جبلٍ شاسعاً ووادياً عميقاً، بين أحراج السنديان والبلوط والكينا ،وفي وسط طريقه ترتاح مدرسة،ٌ كان عندما يمرّ بجانبها ويسمع تحيّة العلم أو قراءة تلامذتها للنشيد الوطني،ّ يكبح جماح رجليه، ويفرملُ قدميه مستعدّاً منتصبَ القامة دون حراك احتراماً لقدسيّة الموقف، ثمّ يتابع...........
وقد اضطرّ هذا الوطنيّ الكادح أن يرضخ مستجيباُ لطلب زوجته الفولاذيّة وتوسّلات أولاده المحاصرين بضيقه الماديّ والذين تكلّفوا العمل المضني في عطلتهم المدرسيّة في مدينة بعيدة ليوفّروا ألف ليرة ثمنَ جهاز تلفاز حلموا باقتنائه، دون أن يعتمدوا على أحد، فالعين بصيرة واليد قصيرة ،فوالدهم مطمور بالديون ،يساهرها في لياليه وترهقه في نهاراته، والكهرباء أمّنتها الدولة لقريتهم في نهاية السبعينيّات ،ومنزلهم الذي يسعُ ألف صديق و يشمخ في ذروة الجبل، أصبح الآن متوّجاً بأنوارها التي دفنت مصباح الكاز وعبيره وقنديل الزيت ورائحته، وبكبسة زرّ سحريّة ، وهم سينعمون كما أنعم الله على أبناء البلدة الراقية المجاورة الذين اقتنى معظمهم أجهزة تلفزيونيّة شمخت لتعانق رؤوس أشجار الحور والجوز بهوائّياتها(الأنتيل) فوق سطوح منازلهم الضاحكة في الوادي، أغلبها مهرّب من لبنان،وسيسعدون بمشاهدة منافسات كرة القدم وأفلام طرزان ومايطلبه الجمهور ومن الألف إلى الياء ومجلة التلفزيون وأضواء على الأحداث ونجوم وأضواء.......وسيرتاحون من عناء وذلّ السهر عند أصحابها المتفاخرين رافعي الأنوف.......وبعد مدّ وجزر ابتاع أبو راتب المغلوب على أمره تلفازاً ضخماً فخماً مستعملاً(فيلبس) ياباني الصّنع، بعد أن عجز على العثور على جهاز سوريّ لأسباب عديدة، من سائق يسافر يوميّاً إلى بيروت، وأنقدَهُ ألف ليرة وهو مبلغ ضخم لتلفاز جديد وليس لمستخدم، لكنّ هذا البائع المحنّك استغلّ بساطة أبي راتب وأهازيج أولاده وأعراس الفرح في أفواههم عند دخول جهازهم الأسطوريّ منزلهم الذي يسع لألف صديق، وتربّعه وسط الطاولة الخشبيّة الكبيرة التي سيتمّ الاستغناء عنها عند الطعام فضيفهم التلفاز المتعالي أكثر أهميّةً من صحون أكلاتهم المتواضعة.........لكنّ أبو راتب كانت فرحته تذبلُ عندما يسأله المتطفّلون من ضيوفه عن مصدر الجهاز اليابانيّ الفخم الذي يظهرُ الصورةَ متراقصةً باللونين الأبيض والأسود، ويعتبر نفسه قد خالف القانون وضميره الصاحي سينكّد عليه حياته، وكابوس اقتحام رجال الشرطة إلى بيته المنسيّ بين صخور الجبل الأشمّ لمصادرة الجهاز المهرّب كان يطارده في أحلام النوم واليقظة، وقد طلب من زوجته وعياله عدم الحديث لأحد عن نوعه ومصدره، ووضع غطاء يسترُ جهازه المتبرّج باسمه الأجنبيّ.........ومرّت سنواتٌ، وسهراتُ بيت أبي راتب الطيّب عامرة بضيوف المساء المتفرّجين على قناة سوريّةٍ يتيمة واخرى لبنانيّة، مع تناوب الحاضرين على صعود السلّم الخشبيّ إلى سطح الدار لتحريك الهوائي المترنّح المدلّل بما يتناسب والمحطّة مع تحمّل المغامر على السطح كلّ الظروف المناخيّة من أعاصير وأمطار وعتمة....وعندما كانت تهبّ رياحُ الصَّبا خاصّة في أيام الدفء كانت قناة مصريّةٌ تغالب القناة اللبنانيّة لتحلّ مكانها عنوةً، فيستمتع المشاهدون بنكهة منافسات الأهلي والزمالك وبأفلام ومسلسلات وبرامج ملوّنة بطعم النيل وأهراماته.........وكم كانت سعادة أبي راتب في عصر يوم شتويّ عند قدومه من عمله وهو يبشّرُ أمّ راتب المستغربة وأولاده المندهشين من فرحته المداهمة لبيتهم، بأنّ قراراً حكوميّاً صدر من إحدى الوزارات يسمح بالاعتراف باقتناء أيّ جهاز كهربائي مهرّب مقابل دفع مبلغ ماليّ يعادل ربع سعره الحاليّ وإعفاء صاحبه من عقوبة مصادرته، وإعطائه تصريحاً بقانونيّته،...وفي اليوم الآتي استدان أبو راتب مبلغ خمسمئة ليرة، وأسرع دوران قدميه متّجهاً إلى قبلة الدائرة الحكوميّة لدفع مايترتّب عليه ويعود بورقة التصريح فيريح ضميره وفؤاده وهو العاشقُ لسوريّته، وإصابته بطلقٍ ناريّ في كتفه أثناء خدمته في الجيش في اليوم الثاني من أيّام حرب تشرين علامتها بارزة ارتسمت على جسده النحيل وهو يعتزّ بها ،فمثله لايليق به أن يخرج على قانون دولة دافع من أجلها وهي هويته وكرامته........وعاد ليخبر زوجته وأولاده وهو يشهر ورقة التصريح القانونيّة بأنّه اليوم يحسّ براحة الضمير، لكنّه خائف الآن أكثر من السنوات الماضية لأنّه ذهب برجليه ولسانه وعينيه وعقله ليعترف بخروجه عن القانون ومخالفته له ولن يستبعد من الآن فصاعداً أن يُعاقب على جريمته النكراء ويُصادر جهازه....أفليس هو من اعترف بعظمة لسانه بذلك؟؟!!