إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء (23))

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء (23))
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: امرأة تحت سيف الأقدار (الجزء (23))

 

امرأة تحت سيف الأقدار

***************

 

(23)

 

بين الميل للتصديق ومناوشات الشكوك ، تنازعت الأفكار في رأس ناديه ، سمعت وامتلأت اذنيها بأفعاله ، شيطان في صورة آدمية ، ذهبت إليه في مكتبه ودافع من الانتقام يتملكها ويسيطر على كل ذرة تنبض بالحياة في جسدها ، على الأقل إن لم تسعفها قدرتها على أن تهدي إليه رصاصة من مسدس سليم ، وهي تعلم مقدما استحالة ذلك لأنها لا تتفق مع أسلوب الشر ، لكنها على الأقل  ستضخ في وجهه اتهامها بقتل خطيبها وحبيبها سليم . تنفث عن نيرانها بنعته بأبشع الصفات ، قد يريحها هذا لكنه لن يعيد إليها سليم ، على الأقل ستشعر بأنها فعلت شيئا من أجله . لم تدر لماذا قبلت دفاعه الموجز عن نفسه ببساطة ، هل نقاء قلبها هو الذي دفعها لأن تستشف صدقه ، أم أنها واهمة وأنه يحترف التمثيل. حامد النجار كان بالنسبة لها وحش يمكنه أن يمزق دون رحمة ، كيف تراجعت عن هذه الصورة لمجرد كلمات قليلة فاه بها ، هل هو الصدق الذي كان يغلف وجهه ونبرات صوته ، أم عينها الثاقبة اخترقت رأسه وأحست بأنه لا يكذب . الأمر ليس بهذه السهولة ، حامد النجار كان يرغب فيها بشدة . شاهدة الرغبة الحمراء في عينيه ليلة الحفل الذي أقامه خالد أخوها في قصر أبيها ، حامد النجار لا شيء يقف في طريقه ، كالبلدوزر يزيح من يقف في طريقه . قد يكون خياله صور له أن سليم هو العائق بينه وبينها ، رفعت صوت تفكيرها .. ما دمت تفكرين بهذه الطريقة ، لماذا صدقتيه ومددت يدك لتصافحيه وأنت خارجة من مكتبه وقبلتِ عزاؤه . لماذا شعرت بأن تياراً سرى في كامل جسدك عندما لامست يدك يده بالرغم من الحزن المسيطر على قلبك . لماذا لم تستطيعي النظر إلى عينيه بالرغم من اختفاء نظرة الرغبة. هل لأن هذه النظرة تحولت لنظرة احترام وتقدير ؟ تباً لهذه الافكار والشكوك ، اعتقد أن أحدا لن يستطيع إنقاذي منها سوى الشيخ نديم.

في المساء طرقت ناديه باب الشيخ نديم ، بهتت من هول المفاجأة ، حامد النجار يجلس مع الشيخ نديم ، كيف ؟! ولماذا؟ ، ومنذ متى ؟ كدوامة هائجة هاجمت الأسئلة رأسها ، تمتمت ببضع كلمات مبهمة ، فهم منها الشيخ نديم اعتذارها ورغبتها في الانسحاب . ابتسم حامد النجار وهو يلاحظ ارتباكها وكأنها رأت شيطان يجالس ملاك ، نهض واستأذن الشيخ نديم في الانصراف ليتيح فرصة لناديه للحديث معه ، لم يزد عن ابتسامة خفيفة ألقاهما عليها وانصرف .

ابتسم الشيخ نديم في وجه ناديه وهو يعلم أن داخلها فضول يعدو خلف حامد النجار فبادرها قائلا :

_ الناس أسرار يا ابنتي ، والله قادر على أن يهدي من يشاء.

_ لا تلم نظرات الفضول يا مولانا ، لكنك لو علمت سبب حضوري فقد تعذر هذا الفضول.

_ أنا أعلم سبب حضورك ، قلبك ملآن بالحزن على خطيبك ، وشكوك حول حامد النجار في أنه هو الذي دبر هذه الجريمة ، أليس كذلك ؟

_ بلى ، بلى ، يا مولانا ، قالتها ناديه وهي تحملق في دهشة .

_ بالنسبة للحزن ، الله هو القادر أن يلهمك الصبر والعزاء ، أما بالنسبة للشكوك فاطرحيها من رأسك ، لأن الرجل بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب .

_ أراك متأكد من دفاعك يا مولانا .

_ ألم أقل لك الناس أسرار يا ابنتي ، وأنا مستودع أسرار لكل من أعرفه ويتحدث معي ، وأنا أعلم الآن حامد النجار أكثر من نفسه ، إطمئني من هذه الجهة .

_ أعذر فضول سؤالي يا مولانا ، هل تعرفه منذ وقت طويل؟

_ ليست العبرة في طول مدة تعارفنا ، لكن العبرة في النية يا ابنتي ، حامد النجار أتى إلى هنا بدافع من داخله وليس مغصوبا ، وهذا يكفي للإنسان كي يبدأ خطى جديدة . متى عرف الطبيب المرض من السهل عليه أن يكتب العلاج ، وأفضل طبيب للإنسان في هذا الميدان هو نفسه . انصرفت ناديه والشكوك في حامد النجار انقلبت لخليط من العجب والدهشة والفضول . ما هذا الزلزال الذي استطاع أن يزلزل جبل هذا الرجل ، حامد النجار ينقلب لمصلي ومن مريدي الشيخ نديم . لو كانت جاءت هذه الخطوة نتيجة لفقده منصبه لكان هناك بعض التفسير ، لكنه لا يزال متربعا بكامل قوته فوق عرش المنصب الخطير، هذا يعني أنه تخلى بكامل إرادته عن كل رذائله وهو لا يزال يقبض على الصولجان . 

 

********

زيارة من ميرفت وزوجها عادل ، للتسرية عن نادية بعد حادثة مقتل سليم خطيبها ، أيضاً رمزي صديق رشاد الذي كان ملازماً صديقه عقب الحادث . دق جرس الهاتف ، حامد النجار يستأذن ناديه في الحضور لتوضيح بعض الأمور بخصوص مقتل سليم ، شيء في داخلها  يرحب بحضوره ، رؤيته مع الشيخ نديم ، وحديث الشيخ عنه ، زكيا صدقه أنه بعيد كل البعد عن مقتل سليم . مفاجأة شديدة في عيار قنبلة ألقاها حامد النجار . المجرم هو الضابط وائل صديق خالد ، وهو الذي لفق تهمة ترويج الشرائط المخلة بالآداب لسليم من قبل ، ليخلو له الطريق لطلب يدها . لم تأت عملية تلفيق تهمة الشرائط بالنتائج المرجوة ، خرج منها سليم ، فقرر التخلص منه نهائيا ودبر جريمته . أكفهر وجه ناديه وهي تعتقد أن أخاها خالد شريك معه ، استشف حامد النجار ما يدور برأسها ، ابتسم وقال لا تظلمي خالد ، أؤكد لك أنه ليس له أدنى علم بما اقرفته يد وائل  ، ولم يكن له أي تدبير . شككت في وائل منذ البداية ، لأنني كنت أعلم أنه يسعى للزواج منك ، كما أخبرني خالد . كنت أظنه سيسلك مسلك الرجال بعد أن علم بارتباطك بسليم . عندما حضرت إلى مكتبي موجهة تهمتك لي ، توقعت أن يكون له يد في تدبير  هذه الحادثة . انتظرت حتى تأكدت ، انتزعت منه اعترافا كاملا بخط يده وسيكون هذا دليل إدانته ، تم القبض عليه اليوم هو والمجرم الذي نفذ الجريمة . نهض حامد النجار ، عيناه تحملان نظرة عتاب رقيقة لناديه على تسرعها في اتهامه وقال :

_ أعتقد أن مهمتي انتهت وسأكون سعيدا بتلبية أي خدمة لك .

انصرف حامد النجار . لم يخف على ناديه دقات قلبه التي حاول أن يطمسها أثناء حديثه ، النظرة التي في عينيه لا يخطىء في تفسيرها من عرف الحب ، وهذا ما دعى ميرفت أن تميل على أذنها وقالت :

_ أعلم أن الظرف غير مناسب لحديث مثل هذا ، لكن هل أكون مخطئة لو قلت أن نظرات هذا الرجل تقول أنه متيم بك ؟

هزت ناديه رأسها وقالت :

_ سبحان من يغير النفوس .

انصرفت ميرفت وعادل ، اقتصرت الجلسة على ناديه ورشاد ورمزي ، نظر رشاد إلى ناديه بعتاب وقال :

_ لماذا لم تخبريني بأنك ستذهبين لحامد النجار متهمة ؟

_ كانت شكوكي كلها متجهة نحوه .

_ لو كنت كشفت سريرة نفسك أمامنا لنصحناك بأن تحولي شكوكك لاتجاه آخر.

_ وكيف علمتما ببراءته وأنتما تعرفان ما تعرفان عنه ؟

تقابلت نظرات رمزي ورشاد في ابتسامة ، مما دعى ناديه أن تستوضحهما سر هذه النظرات الغامضة ، هز رمزي رأسه وهو ينظر إلى رشاد وقال :

_ اعتقد أن الأمور وضحت للجميع ، ولا بأس من إخبار ناديه بما كنا نخفيه عنها كطلب حامد النجار .

زاد الفضول في عيني ناديه مع بعض الضيق ، لأنها أحست أنهما يخفيان عنها شيئا ، قبل أن تصرح بضيقها قال رشاد :

_ عندما نتحدث أنا ورمزي الآن عن حامد النجار ، فإننا نتحدث عن حامد آخر غير الذي لوثت أذنيك سمعته .

وأكد رمزي :

_ بالضبط يا ناديه ، حامد النجار تحول في غمضة عين من شيطان إلى ملاك وأصبحنا أنا ورشاد من أصدقائه .

قالت ناديه وهي تهز رأسها :

_ الآن علمت السر في وجوده مع الشيخ نديم عندما ذهبت لزيارته.

وقال رمزي مسروراً :

_ حتى الأب يعقوب يشمله بدعواته الآن ، بعد أن أسدى خدمة للكنيسة باستخراج تصريح لترميم الكنيسة ..

لم يدر رشاد ورمزي أي نظرة تلك التي امتلأت بها عينا ناديه.

 

********

 

       هناك أشياء قد تكون مستبعدة وأحيانا تصل للاستحالة لكنها تحدث في الحياة . زواج ناديه من حامد النجار كان من الأمور المستحيلة وغير الواردة في قاموس المنطق لكنه حدث ، كيف ؟ ولماذا ؟ ، لا أحد يستطيع أن يخمن الإجابة الصحيحة . المدهش أن يكون هذا الزواج يحمل على الأقل نوعا من الاستلطاف من جانب ناديه ، حامد النجار كان يرغب فيها كأي امرأة من نساء فراشه ، لكنه وخارج كل المقاييس ، استيقظ ليجد نفسه يسبح في غرام لم يسمع عنه من قبل . حياته لا تحمل سوى الشهوة المجردة ، المشاعر والأحاسيس كانت بعيدة عنه وتتنافر معه ، كيف حدث الانزلاق في حب ناديه هو نفسه لا يعرف . الحقيقة الوحيدة التي  يعلمها تماما ، أن حبها هو الذي صهره في بوتقة ، خرج منها تاركا كل شوائب جسده ونفسه ، هذا الحب هو الذي أعاد له الحياة الإنسانية ، وهو أيضا الذي جعله يبتعد عن طريقها ، حينما علم أنها مخطوبة لسليم متمنيا لها السعادة من كل قلبه . اكتفى من هذا الحب بأنه طهره من معاصيه التي لا تعد ولا تحصى ، حتى بعد حادثة مقتل سليم لم يحاول التقرب منها ، حتى لا تظن أنه يسعى خلفها . شخصيته الجديدة هي التي ولدت في أعماقها هذا الاستلطاف تجاهه ، وقد يكون للشيخ نديم دور ، وقد يكون لرشاد أخيها ورمزي جانب . أما ما لا شك فيه ، هو اعترافها بفضله عندما ذهبت إليه ورجته أن يستخدم سلطته في عمل الخير ، ويعيد أمها وأباها إلى جادة الصواب ليكفا عن فضائحهما وعبثهما ، قام بدوره خير قيام ، أغلقت المرأة العابثة والرجل الذي باع شرفه الباب عليهما خوفا ، ثم ندماً ، ثم توبة . أما خالد فلقد نقله إلى مكان لا يستطيع أن يحيد فيه يسارا أو يمينا.  لا أحد يعرف متى بالضبط تغيرت زاوية نظرها تجاهه ومالت نحو الرضا، وبالرغم من فارق السن الذي يعد كبيرا وخارج عن المألوف تم الزواج. استقال النجار من عمله تاركاً السلطة ، وما جلبته عليه من أعمال أصبح هو نفسه ينفر منها عندما يتذكرها . قرر أن يشارك زوجته ناديه في الإنتاج السينمائي. كل من يسمع عن هذا الزواج تصيبه الدهشة ، كلما رآهما الشيخ نديم يقهقه قائلا.. لأول مرة يزداد إيماني بالمثل القائل.. ما محبة إلا بعد عداوة.

 

 

********

      الأعوام تعدو سريعا، والليلة الاحتفال بعيد ميلاد نرمين الثاني عشر،  نرمين ابنة ناديه وحامد النجار، لم يكن بينهما حباً متأججا على الأقل من جانب ناديه، لكن يمكن أن نقول أن الحياة بينهما كانت تسير على وتيرة هادئة، يشغلهما عمل مشترك في المجال السينمائي . الحق أن حامد النجار أبدا لم يفكر في العودة لسيرته القديمة ، أحب ناديه ، لم يكن يدخر وسعا لإسعادها، ناديه على ما يبدو أغلقت قلبها على حب سليم خطيبها .  عاشت مع حبها البكر أحلى أيام عمرها لكن وائل صديق خالد أخيها ، هام في حبها فتخلص منه بخسة ونذال  ، ظن أنه سيفلت بجريمته . وأن الأنظار ستتجه لحامد النجار، لكن حامد النجار هو الذي قدمه للعدالة . قضى مدة عقوبته بالسجن ، خرج ولا يزال قلبه ملتهبا بحب ناديه ، كادت روحه تتركه وتفر من جسده،عندما علم أن ناديه أصبحت زوجة لحامد النجار.قتلته الدهشة والغيرة معا ، فضلت حامد النجار عليه ، لن يفقد الأمل حتى لو كانت متزوجة من حامد النجار ولديها طفلة منه .  سنوات  أمضاها في السجن بسبب حبها وخسر عمله كضابط ، لولا ثراء والده الله يعلم ماذا كان سيصبح مصيره بعد خروجه من السجن ، لن يضيع كل هذا حتى لو اضطر لقتل حامد النجار نفسه . وقف يتلصص من خلف قضبان سور حديقة فيلا حامد النجار ، يعض على نواجذه ، يرى السعادة على وجه ناديه وهى تحتضن ابنتها نيرمين وتقبلها بعد أن أطفأت شموع الكعكة الإثنى عشر . الجميع مبتهجون عادل وزوجته ميرفت وعلاء وعليا، والد ووالدة ناديه ورشاد ورمزي صديقه ، وخالد التائب عن الرذيلة الذي تغير كل شيء فيه حتى خطواته التي تحولت إلى خطوات وقورة . ما الذي حدث في هذه الفترة ولم شمل الجميع! ، هل حدثت معجزة ! حتى المعجزة تعجز عن لم شمل هذه المتناقضات ، تحرك وائل وأظافر الشيطان تمزق داخله ، وفكرة للوصول لناديه بأي ثمن.

قرب الانتهاء من حفل عيد الميلاد والجميع في سعادة بالغة ، وبصورة لا يتوقعها أحد هوت نيرمين فاقدة الوعي . طار الجميع نحوها ، اعتلى الخوف وجه عادل بعد أن وضع يده على جبهتها وأحس بها كالجمر. علا صوته يطلب استدعاء عربة الإسعاف لنقلها للمستشفى سريعاً ، شحوب الموت على وجه أمها ناديه ويد حامد النجار تمسك بها حتى لا تهوي . حامد النجار أظهر تشبثه بالشجاعة بالرغم من القبضة الحديدية التي أحس بها تعتصر قلبه.  

 

 

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

*********************