إبراهيم الديب يكتب: «أرزاق»

إبراهيم الديب يكتب: «أرزاق»
إبراهيم الديب يكتب: «أرزاق»

 كنت أجلس على رصيف المقهى أنا ومجموعة من أصدقائي فى تسعينات القرن الماضي  وتحديداً في موسم الانتخابات كما يطلق عليه  المنتفعين منه مثل عبده  الذى يجلس على يميني بدون عمل أو مصدر دخل ثابت أو أمل في الغد، ويهدده القهوجي بأنه لن يأتي له بمشاريب مرة أخرى قبل أن بدفع الحساب القديم... يعانى عبده فلس مزمن وقلة عمل وضيق في الرزق... يصعد يوماً وتهبط به الدنيا أياماً عديدة لعله يجد متعة في ذلك فلم أسمعه يوماً يشكو من ذلك، كما يعاني عدم ثقة الناس به واستخفافها لشأنه.
ولكنه يتمتع بجرأة شديدة وروح وحب المغامرة وعشق لا حد له للحياة وقدرة على الحكي الفطري الممتع الجذاب وهذا ما يجعله مرحب به بالمجالس... كنا معتلين رصيف القهوة وواجهتها .أقترب  منا أحد المرشحين للانتخابات البرلمانية وسط مجموعة كبيرة من مؤيديه وحملة دعايته:  المرشح رجل فارع الطول ضخم يتوسط الجميع .. ثم بدأ أحد رجال حملته تقديمه وتعريفه لنا وبذل مجهودا كبيراً ولكنه لم يحسن  التعريف بالرجل الذى لم تنجب الدائرة مثله قبل ذلك وأعتقد أنها لن تنجب مثله بعد ذلك .. وبعد أن تمنينا له التوفيق والنجاح والسداد في خدمة الدائرة بل والدولة بعد الفوز الأكيد في الانتخابات والجلوس على كرسيه في مجلس الشعب الذي ينتظره بلا محالة والذي أكده الجميع له بعد أن  بدت على وجه المرشح سعادة جعلته يفكر فيما هي خططه بعد الفوز المؤكد و بعد مصافحتنا كعادة ما نفعل مع كل من يأتي إلينا من المرشحين ونؤكد أن أنه الفائز والذي يستحق الفوز والذي هو أهلا له بجدارة دون المرشحين الآخرين اللذين يبحثون عن مصالحهم الشخصية أما هو فهو الوحيد الذي سيتفانى في خدمتنا وخدمة البلد ... هذا ما يقوله رواد المقهى لكل من يأتي إليهم من المرشحين ثقافة أو لغة دبلوماسية أو مجاملة حفظناها ....ثم أنتفض عبده المفلس الذي بلا عمل وبلا نقود ولا تثق الناس به ويهدده القهوجي ويشرب طلبات على حسابنا بسبب كل ما سبق ذلك والذي كان يراقب المشهد عن كثب منذ وصول المرشح... ثم أطلق  صرخة مدوية شدة انتباه الجميع وهى إسم المرشح الذي يقف بيننا الأن و الذى لن يجود به الزمان مرة أخرى فلابد على حد قول عبده أن: يستغل أهل الدائرة الفرصة لانتخابه وكانت هذه أول مرة  يرى فيها عبده المرشح....  فالتفت إليه المرشح بعد أن أعجب بجرأته وكذبه الصريح الفج بهذه الصورة دون خجل أو تردد فكان يعلن عنه ويقدمه بصورة غير مألوفة رمقه المرشح بنظرة فاحصة كاشفة أغوار عبده حتى بدت حاجة عبده وفقره واضحة تماماً لسان حال المرشح تقول هذا رجل دعايتي هذا ما أبحث عنه : هذا أفضل من يمثلني، و أفضل من يمثل أفكاري التي لن تتحقق أبدا و التي أعلن كي لا تتحقق ، وبإشارة منه كان عبده محمول على أعناق أفراد الحملة المتان الشداد الأقوياء وعبده يواصل صراخه وهتافه معددا بطولات المرشح ومناقبه وأخلاقه وأعمال البر التي يقوم بها على مدار العام وأفرد الحملة يؤمنون على كلامه ثم يرددوه وكأنها ثورة سوف تسقط عرش ملك وهم لم يروه إلا من  عدة دقائق! ثم كانت جموع غفيرة تحلقت حول المقهى أبتلت ملابس عبده من شدة العرق ومن شدة  المجهود الكبيرالمبذول في الكذب والصراخ المتواصل ومن المجهود الكبير الذى بذله  من أجل  توضيح شخصية المرشح  هدية السماء للدائرة. نزل عبده  من على أكتاف الرجال الأقوياء الأشداء ومعه مائتين جنيه ووعد من المرشح أن ينضم لحملته الانتخابية من الغد قبل أن يأتيه منه  فى الصباح بوكشة : سمك بورى وبعض كيلوات اللحم وما عجز فريزر ثلاجة عبده عن استيعابه من كل ذلك أرسله لأقاربه .....كرر  عبده ما فعله مع  المرشح صاحب المائتين جنبه والسمك واللحمة .كرر عبده ذلك مع كل مرشح يأتي للمقهى  ولم ينسى عبده  بعد كل مرة وبعد أن يطلب لكل من يجلس على الرصيف قهوة على حسابه  وهو يشخط وينطر ويتعالى على القهوجي ويسبه إذا تأخر عن إحضار المشاريب ويسبه أيضا دون تأخير بعد أن دفع عبده الحساب القديم ومسحه من كراسة الشكك وأصبح يدفع ثمن المشاريب مقدماً ويترك الباقي بقشيش للقهوجي الذي أصبح ينظر في الأرض وهو يتحدث مع عبده والذي يناديه باسمه مسبوق "بالمعلم عبده"...

 

 

بقلم/ ابراهيم الديب