ربما لم تكن هناك صدفة تاريخية عند وفاة وزير الدفاع الأمريكى الأسبق «دونالد رامسفيلد» وقرب نهاية الانسحاب الأمريكى من أفغانستان، فقد كان توافق الحدثين معبرا بقوة عن دراما السياسة الخارجية الأمريكية بين التورط الشديد، والانسحاب المتعجل. لقد سبق لكثيرين وصف السياسة الأمريكية فى عمومها بأنها أشبه بالبندول الذى يتأرجح بين اليمين واليسار، أو بين المحافظين (الجمهوريين الآن) والديمقراطيين، فما أن يصل أحدهما إلى أقصى التطرف فإنها تكون نفس اللحظة التى تعود فيها الساعة إلى الطرف الآخر من الحركة. ولكن هذه النظرية ليست صحيحة على إطلاقها، فإلى حد كبير فإن الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، ومن بعدها الحرب الكورية، نجحت فى تكوين تحالف عالمى موضوعى مكون منها ومعها دول أوروبا الغربية الأساسية فى حلف الأطلنطى، ومن بعدها فى مجموعة من الاتفاقيات الدفاعية مع اليابان وأستراليا ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية.
وفيما عدا ذلك فإن النجاح الأمريكى كان محدودا أو لم يحدث على الإطلاق، وظهر ذلك فى فيتنام ومنطقة «الهند الصينية» فى عمومها، وفى «الشرق الأوسط» والتى تجسدها الانسحابات الأمريكية من أفغانستان والعراق، ومن قبلهما فى لبنان. وليس معلوما لماذا تنجح الولايات المتحدة أحيانا، وتفشل فى أحيان أخرى، وفى الدراسات الأمريكية فإن التعامل مع كلتا الحالتين بدأ من الطبيعة «العالمية» للمبادئ السياسية الأمريكية، فضلا عن القوة الكامنة فى النظام الرأسمالى الأمريكى الذى يطبع القدرات الأمريكية بالمبادرة والإبداع الإنتاجى والثقافة والسوق الحرة.
والمرجح لدينا هو أن العامل الثقافى لعب دورا كبيرا فى الحالتين، وكان إيجابيا فى الحالة الأولى نظرا للجذور الأوروبية فى الثقافة الأمريكية، وأن اليابان كانت فى الواقع دولة من الدول الصناعية المتقدمة بغض النظر عن هزيمتها فى الحرب العالمية. المسافة الثقافية بين الولايات المتحدة من ناحية وفيتنام والعراق وأفغانستان من ناحية أخرى، جعلت محاولتها لبناء «الدولة» مصابة بعوار كبير أدى فى النهاية ليس فقط إلى الخروج الأمريكى، وإنما إلى استيلاء خصومها الرئيسيين (الشيوعيين فى الحالة الأولى الفيتنامية، وأتباع إيران من الأصوليين الشيعة فى الحالة الثانية، أما فى الحالة الثالثة التى لم تكتمل بعد فإن طالبان الأصولية السنية وحلفاءها من الفصائل المختلفة تبدو فى طريقها العائد إلى السلطة مرة أخرى). هذا العامل الثقافى، أو الأيديولوجية بشكل آخر، لعب دورا كبيرا فى التوجهات الأمريكية للتعامل الخاطئ والتحليل المضطرب للواقع فى الدول التى دخلتها الولايات المتحدة كما لو كانت ذاهبة إلى نزهة بحرية وبرية، وخرجت منها فى هزيمة قاسية.
ولا أحد ربما مثل «دونالد رامسفيلد» يمكنه شرح هذه المسيرة الأمريكية المتأرجحة، فالرجل، الذى شهد فى صباه السياسى الخروج الأمريكى من فيتنام، بينما كان يعمل فى الحاضنة الجمهورية لإدارتى نيكسون وفورد، كان عليه أن يكون وزير الدفاع الذى شهد الاعتداء الإرهابى الإجرامى على برجى مركز التجارة العالمى فى نيويورك. وساعتها فإنه ترك مقعده فى قيادة المؤسسة الدفاعية الأكبر والأعظم فى العالم لكى يكون أمام المصورين فى منطقة انهيار البرجين. «رامسفيلد» صار بطلا، ولكن أفكاره قادت إلى أولا الغزو المتعجل لأفغانستان، وثانيا وقد ظهر أن الدولة التى دخلتها الولايات المتحدة تعانى من فقر شديد حتى لم يعد فيها ما يكفى الأهداف التى تحتاجها القوة الجوية الأمريكية، فإنه اتجه إلى العراق وجرى وضعها تحت الاحتلال الأمريكى.
كان وزير الدفاع فى إدارة جورج بوش الابن الأولى جزءا من الجماعة السياسية لمن عرفوا بالمحافظين الجدد الذين يعتقدون أن الولايات المتحدة أمامها قدر تاريخى لهداية العالم نحو الأفكار المثالية الأمريكية فى الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان الذى أعطاها القوة والقدرة، وفى إمكانها أن تجعل الدول والأمم الأخرى مشابهة للدولة والأمة الأمريكية. هذه الجماعة وجدت أن الخروج من فيتنام كان نتيجة فشل ووهن النخبة السياسية الأمريكية التى لم تستطع لا كسب الحرب ولا كسب السلام. كان النصر الفيتنامى هو نتاج القوة الدافعة للشيوعية الدولية ومن ورائها الاتحاد السوفيتى والصين، ولكن طالما أن الاتحاد السوفيتى قد انهار ومعه الحرب الباردة، وتحولت الصين إلى الطريق الرأسمالى، فإن الطريق بات مفتوحا أمام الولايات المتحدة لكى تكون القوة القائدة فى العالم.
هذه المرة مضى على وجود الولايات المتحدة فى أفغانستان عشرون عاما، أما فى العراق فقد استغرقت فيها سبع سنوات قبل اكتشاف الثمن الكبير التى دفعته الولايات المتحدة لكى تقيم دولة عراقية وفق التصميم الأمريكى للدول. كان جورج بوش الابن قد وجد أنه لا سبيل للنجاح فى العراق، واتخذ قرارا ببدء عملية الانسحاب. لكن الرئيس التالى باراك أوباما الذى نفذ القرار كان قد قاد حملته الانتخابية على قاعدة أن التواجد الأمريكى فى العراق كان فى المكان الخطأ، أما المكان الصحيح فهو فى أفغانستان التى انطلق منها إرهابيون من تنظيم القاعدة لضرب الأهداف الأمريكية.
التجربة سواء كانت فى أفغانستان أو العراق كانت مكلفة للغاية، وفاقت تريليونات من الدولارات، لأنها كانت لإقامة نظم سياسية واقتصادية وثقافية جرى إنتاجها فى عقود وقرون كثيرة فى الدول الأوروبية والولايات المتحدة. الحصاد كان فى العراق مزريا لأن العمل الأمريكى فى بغداد لم يكن مستوعبا للواقع العراقى، كما كان غير قادر على استيعاب التأثير الإيرانى داخل الدولة الملاصقة- إيران- والتى كانت فى حرب مع العراق لثمانى سنوات قبلها. وفى أفغانستان لم يكن الاستيعاب كافيا، وكان التصور أن انتشار التعليم وبعض من تحرير المرأة سوف يكون القاعدة المناسبة للدولة الديمقراطية، والتعرف على مظاهر التقدم فى الولايات المتحدة الأوروبية سوف يكون كافيا للدولة الأفغانية الجديدة.
وفى الحالتين العراقية والأفغانية كان الواقع أكثر تعقيدا بكثير مما جرى تصوره فى واشنطن من قبل جماعة المحافظين الجدد الذين تمددوا فى إدارة جورج بوش، وكان منهم ليس فقط وزير الدفاع، وإنما أيضا نائب الرئيس «ديك شينى»، ومعهم «بول ولفويتز» نائب وزير الدفاع، ومن المفكرين والمنظرين روبرت كيجان. وفى الممارسة فإن الولايات المتحدة أخطأت أكثر عندما فككت قواعد الدولة العراقية وأقامت نظاما سياسيا يزيدها تفكيكا لقيامه على الطائفية، وفى أفغانستان كان الخطأ مضاعفا لأن الولايات المتحدة فى عهد الرئيس ترامب أخذت فى التعامل المباشر مع جماعة طالبان الإرهابية المتطرفة، وهو ما أعطاها شرعية واسعة داخل الطائفة البشتونية دفعت أفغانستان ثمنه بعد ذلك.
الثابت فى التجربتين العراقية والأفغانية أن الولايات المتحدة التى دخلت إلى البلدين باعتبارها تقوم بتحرير كليهما من قوى طاغية، وجدت نفسها فى النهاية تعامل باعتبارها قوة احتلال. وللأسف فإن المعلومات التى اعتمدت عليها واشنطن فى الدخول إلى البلدين أو غزوهما كانت فى أغلبها خاطئة وغير مطابقة للواقع، وقادمة من جماعات المغتربين فى الولايات المتحدة، التى قدمت صورة وردية للاستقبال المتوقع للقوات الأمريكية. الواقع كان مختلفا كثيرا، وبقدر ما تحملته الولايات المتحدة من تكلفة، فإن شعوب هذه الدول دفعت، ولاتزال، ما هو أكثر.