لخص السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي - خلال فعاليات المشروع القومي "حياة كريمة" منذ عدة أيام - كلمته للشعب المصري عن السد الإثيوبي في عدة جمل تحمل رسائل عديدة للداخل والخارج على السواء، من ضمن هذه الجمل:
- "لدينا خيارات متعددة في الحفاظ على أمننا القومي نقيِّمها طبقًا للموقف والظروف"، و"إن ممارسة الحكمة والجنوح للسلم لا يعنيان التهاون في حق الوطن"، و"نتعامل مع كل قضايانا بتخطيط عميق"، و"مصر أصبحت تمتلك من الأدوات السياسية والقوة العسكرية والاقتصادية ما يعزز من إنفاذ إرادتنا وحماية مقدراتنا"، و"قبل ما تحصل حاجة لمصر يبقى لازم أنا والجيش نروح "......." الأول عشان يحصل لها حاجة، واختتم هذه الجمل برسالة طمأنة للمصريين قائلاً: "إحنا كمصريين لا يليق بنا أن نقلق".
ونظرا لخطورة هذا الملف الذي يشغل فكر كل مواطن مصري شريف، فقد اهتمت جميع فئات الشعب بكلمة السيد الرئيس الذي طمأنهم من خلالها على مستقبل مصر المائي، وبهذه المناسبة كنت قد حضرت ندوة بعنوان "المؤامرة الكبرى.. قراءة لمشهد الصراع المصري – الإثيوبي"، برعاية "مؤسسة رسالة السلام"، وشرفت بإلقاء كلمة فيها وسط كوكبة من الشخصيات: الوطنية، العسكرية، والأكاديمية، بدأتها بعلاقة مصر بأثيوبيا، حيث أن قدماء المصريين منذ فجر التاريخ حرصوا على احتواء وتجنيد القبائل الإثيوبية لصالحهم ضد أعدائهم؛ وذلك من خلال علاقات تجارية مميزة بينهم، إلى أن عبثت الصهيونية الحاقدة في جينات كل من يجلس على العرش الإثيوبي، وتحديدًا في عهد الخديو إسماعيل محمد سعيد - والى مصر والسودان من يناير 1863 وحتى يونيو 1879 - حيث استطاعت قوى البغي والحقد والتآمر على مصر ( مجموعة من الدبلوماسيين الأجانب الذين أحاطوا بعرشه ) أن تُشعل نيران الخلاف بينه وبين إثيوبيا، فما كان منه إلا أن عمل بمشورتهم في استئجار جيش من مرتزقة: أوروبا وأمرريكا ( 9500 مرتزق تقريبا) لغزو إثيوبيا مرتين متتاليتين فاشلتين في فبراير ومارس العام 1875 في موقعتين سُميتا بـ "جوندات" و"جورا" مقابل آلاف الجنيهات الذهبية بعيدا عن جيش مصر بالطبع، وهذه قضية أخرى لها "غصة" في حلق الإثيوبيين، ولا مجال هنا لذكرها.
لكن ما يجب التركيز عليه فى سياسة الخديو إسماعيل؛ هو توابع مغامرتيه الفاشلتين لغزو إثيوبيا بجنود مرتزقة، والتي أغرقت مصر فى تراكم الديون الأوروبية، مما دفع بريطانيا للتحرك بدعوى استرداد أموالها واحتلال مصر فى 13 سبتمبر 1882، ومنذ هذا التاريخ؛ استمرت الحرب المعلنة بين مصر وإثيوبيا حتى وقع القطران بوساطة بريطانيا اتفاقية "هويت" لوقف الحرب بينهما؛ وبذلك عادت الأمور إلى طبيعتها حتى تولي الإمبراطور المارق "سيلاسي" حكم بلاده عام 1930.
وخلال خطة تصعيدية أخرى، وقت انشغال مصر بتوابع ثورة 23 يوليو المجيدة، حيث بدأ "سيلاسي" في استخدام ذات الأسلوب العدائي ضد مصر عام 1953 عندما أنشأ سدًا على مجرى نهر النيل، وهو السد الذي عُرف حينئذ بـ "سد تيس أباي 1 و2 " لنفس المزاعم "توليد الكهرباء"، وعندما اشتم الخبر الزعيم الخالد جمال عبد الناصر ( عضو مجلس قيادة الثورة حينئذ والرئيس الفعلى لمصر ) ثارت ثائرته ضد الرئيس محمد نجيب؛ بحسب تقرير منسوب لوكالة الـ (سي.آي.إيه) الأمريكية، فاعتبرها "ناصر" وبقية الضباط الأحرار قضية أمن قومى مصري من الدرجة الأولى، ولا يجب الصمت عليها أو الرضوخ لها.
واعترف "نجيب" بخطئه غير المقصود لخطورة هذا الموضوع، ومنح "ناصر" توكيلاَ للتعامل مع الصلف الإثيوبي حول السد، وبعيدا عن كثرة التفاصيل حول هذا الموقف وتلك الفترة؛ فقد اتفق "ناصر" مع محمود فوزى – وزير خارجيتنا آنذاك – على تفويضه صلاحيات رئيس الجمهورية كاملة للتعامل مع الإمبراطور المارق في هذا الملف؛ فكتب "ناصر" خطابا شديد اللهجة بتاريخ 1 نوفمبر 1953 حمله "فوزي" إلى "سيالسي" هذا نصه:
-"عظمة الإمبراطور هايله سيلاسى؛ من البكباشى جمال عبد الناصر (القيادة العامة المصرية) تحية عطرة؛ النيل يعنى مصر، وباسم مصر ورئيسها وجيشها العظيم؛ نطالبكم بوقف أعمال بناء «سد تيس أباى» فورا، وقد نمى إلى علمنا أنكم تشيدونه على نهر النيل دون إخطارنا، وأن ارتفاعه يبلغ 112.5 متر لتوليد طاقة كهربائية قدرتها 100 ميجا وات، ولأن مصر تتبنى جميع الدول الإفريقية، وهى مستعدة للدفاع عن أى دولة بما فيها إثيوبيا وقت الضرورة، ونظرًا لحقوق مصر التاريخية ومواد الاتفاقيات بشأن النيل العظيم؛ نطالبكم بوقف جميع الأعمال فورًا على مجرى النهر الذى يجرى فى دماء المصريين، ويعتبر تهديده هجومًا على حياتهم مما سيستدعى تحركًا مصريًا غير مسبوق فى التاريخ؛ ينهمر على إثيوبيا جحافل من الخليج إلى المحيط".
وبعدما تأكد الإمبراطور المارق من جدية الخطاب، وشخصية كاتبه من الرئيس الأمريكي "أيزنهاور" عن طريق سفير أمريكا في بلاده، رضخ للأمر، وأكد لوزير خارجيتنا أن ارتفاع السد سيصبح 11.5 متر فقط بدلا من 122.5، وأن إثيوبيا ستكتفى بتوليد طاقة قدرها 11.5 ميجا وات بدلا من 100 ميجا وات من المشروع، وتسلم "فوزى" تعهدًا من الامبراطور بهذا الأمر؛ إضافة إلى تشييد السد المشئوم على شاطئ نهر النيل بنفس المنطقة، وليس على مجرى النهر مباشرة.
ثم تطرقت في الحديث عن الخطاب التحريضي المسموم لبنيامين نتانياهو – رئيس وزراء إسرائيل السابق – أمام البرلمان الإثيوبي منذ 6 سنوات بمناسبة الذكرى الـ 68 للنكبة، ولمدة 13 دقيقة تقريباً، تزامناً مع افتتاح المرحلة الأولى من بناء "السد الشؤم".
وقد استهل "نتانياهو" حديثه للأثيوبيين بتميز العلاقة التاريخية بين أسلافه وقت اغتصابهم أرض فلسطين وبين "هايله سيلاسي" - الإمبراطور "الإثيو – صهيوني" الذي يمتد نسبه - كما ذكرنا في مقال سابق – إلى سلالة ملكة سبأ؛ زوجة الملك "سليمان بن داود"، ثالث ملوك مملكة يهودا الموحدة، وهو المدخل المُحبب - على ما يبدو - عند الإثيوبيين، فادعي "نتانياهو" أن "ثمة رابطة دم تربطه بالإثيوبيين"، مُستحضرا في ذلك قصة زواج سيدة سبأ - ملكة بلادهم قبل 3000 عامًا - بالملك سليمان، في القدس.....!!
وبدا واضحا هنا من تحريض "نتانياهو" للشعب الإثيوبي الشقيق قدرته على اختيار مصطلحاته، وترتيب أفكاره بشكل يناسب أيدولوجيتهم وثقافتهم، إضافة إلى طرحه لقضية المياه بشكل واضح وصريح، معلنا بـ "بجاحه منقطعة النظير" تعاونه التام معهم كي تصب مياه النيل في أي اتجاه يريدون، طبعا في رسالة عدائية موجهة لمصر مباشرة، واستطرد حديثه للبرلمان الإثيوبي قائلاً:
-"أنتم في إثيوبيا حاربتم من أجل الحرية، أنتم تحافظون على الحرية على مدار أجيال، وعلى مدار آلاف السنين، حارب شعبكم من أجل الاستقلال وحافظ عليه، وأنا أحترمكم على ذلك، ونقدركم على ذلك، قاومتم الحكم الأجنبي وعشتم شعبًا حرًا في موطنكم"، كما تطرق في تحريضه لذكر مصر مرتين مدعيًا:
-"ميلاد الشعب اليهودي بدأ بالحصول على حريته، وقصة الخروج من مصر، خرجنا من العبودية للحرية، إلى أرضنا، أرض إسرائيل "، زاعما أن "حرية الشعب اليهودي، والشعوب الأفريقية، كانت حُلمًا لـمواطنه الصهيوني "هرتزل" – أحد الرموز الصهيونية العالمية العنصرية - والذي كان يأمل في مساعدة الأشخاص السود بإفريقيا للحصول على حريتهم، لذا فإن فكرة الخروج من مصر، مرتبطة بإقامة الدولة اليهودية، وهذا ما قاله بالضبط "هرتزل": "إذا رغبتم فلن يكون هذا حلمًا "....!!
وبهذا الخلط الكاذب ربط "نتانياهو" بين مصر وبين العبودية من ناحية، وبين إسرائيل وبين من يُريد الحرية وبناء الدولة القوية من الناحية الأخرى، وهكذا استمر في حديثه لأعضاء البرلمان الإثيوبي مكررا ادعائه وكذبه:
-"من يريد استكمال حريته، وبناء دولته، فلينعتق عن مصر، وإذا رغبتم فلن يكون هذا حلمًا"......!!، كما ادعى "نتانياهو" أمام البرلمان الإثيوبي أيضاً ان "إسرائيل دولة ديمقراطية يعيش فيها العرب والمسيحيين واليهود والمسلمين، دون أي تفرقة دينية أو عرقية أو جنسية"، ونسى "نتانياهو" أو تناسى ربما؛ المظاهرات اليومية ليهود الفلاشا ضد عنصريته هو وعصابته ضدهم ......!!
وحتى أربط عدد لا بأس به من خيوط المؤامرة على مصر، فقد تطرقت أيضا لمؤلف خطير للصحفي المصري الكبير كامل زهيري - نقيب الصحفيين الأسبق ورئيس اتحاد الصحفيين العرب - تحت عنوان "النيل في خطر: مشروعات تحويل مياه النيل، من هرتزل إلى بيجن (1903-1980)"، يتناول قضية التطلعات الإسرائيلية إلى الحصول على حصة في مياه نهر النيل.
تعود تلك التطلعات إلى جذور أقدم من إنشاء الكيان الإسرائيلي نفسه في عام 1948، حيث ترجع إلى وقت نشأة المنظمة الصهيونية على يد تيودور هرتزل، الذي اهتم شخصيًا منذ البداية بتلك القضية، وبذل مساعي حثيثة لتنفيذها على أرض الواقع، قبل شروعه في جهوده المعروفة في تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
استند "زهيري" في مؤلفه على عدد من المصادر والوثائق المهمة، من أبرزها "يوميات هرتزل" الكاملة المنشورة في نيويورك عام 1960 بعد أكثر من 50 عامًا من وفاته، وعلى وثيقتين مهمتين نقلهما "زهيري" إلى العربية لأول مرة، وهما: "نص مشروع امتياز توطين اليهود في سيناء" الذي عرض على اللورد كرومر (وبطرس غالي - رئيس النظار المصري – آنذاك، ونص "تقرير البعثة الفنية" التي أرسلتها الحكومة البريطانية إلى سيناء، بالاتفاق بين ثيودور هيرتزل (9) والزعيم السياسي البريطاني جوزيف تشمبرلين في 3 مارس 1903
وفي كتاب بعنوان "التوراة" ألقى عالمنا الجليل د. مصطفى محمود الضوء على ما تُطلقه التوراة على مصر "بيت العبودية" نظرَا لما عاناه شعب إسرائيل من اضطهاد أيام الفراعنة على يد أحد حكام الهكسوس، وليس حكام مصر كما يدعون ويروجون لذلك، وهذا ما أثبته في كتاب لي بعنوان "توت عنخ آمون.. والحقيقة الغائبة".
فقد كان مفهوما بعد أن بعث الله "موسى و هارون" إلى فرعون وقضى على مصر بآيات مُدمرة مهلكة أن ينتهى هذا الحقد وهذا الثأر إلى الأبد، ولكن قارئ التوراة يكشف عكس ذلك تمامًا، إذ تدعي التوراة أن شعب إسرائيل قد صب جام حقده معه ووضع ثأره بين عينيه، ولم يكفه ما أنزله الله بمصر من نكبات، فبطول التوراة وعرضها لا يأتي ذكر مصر - كما قلنا - إلا ومعه لعنة ووعيد أو تهديد أو نبوءة بالدمار والخراب......!!، وفي الإصحاح 15 سفر التكوين نقرأ:
- "وفي ذات اليوم قطع الرب إبراهيم ميثاقا قائلًا : لنسلك، أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات"، والمراد بنسل إبراهيم في التوراة هم أبناء إسحاق ويعقوب، وليس نسل إسماعيل، فإسماعيل غير معترف به لأنه من نسل الجارية المصرية هاجر، وهو فرع ملوث لانبوة فيه ولا أمل، ثم تتوالى الوعود والعهود ونقرأ في الإصحاح 11 من سفر أشعيه:
- ويكون في ذلك اليوم أن يجمع الرب جميع المشتتين والمنفيين من أبناء بنى إسرائيل ويهوذا من أربعة أطراف الأرض، لينقض الجميع على أكتاف الفلسطينيين عربًا وينهمون بنى مشرق معًا، يكون على آدم وموآب امتداد أيديهم وبنو عمون في طاعتهم ويبيد الرب لسان بحر مصر ويهز يده على النهر قوة ريحه ويضربه إلى سبع سواق يعبر فيها بنو إسرائيل بالأحذية وتكون سكة لبقية شعبه كما كان لإسرائيل يوم الخروج من أرض مصر......!!!، وفي الإصحاح 43 من نفس السفر:
-"أني أنا الرب، إلهك قدوس إسرائيل مخلصك، جعلت مصر فديتك ". يا سبحان الله......!!، إلى هذه الدرجة يجعل الرب من مصر خروف ضحية يذبحه لشعبه الحبيب إسرائيل فدية"......!!، وفي مكان آخر من ذات السفر:
- "أهيج مصريين على مصريين، فيحال كل واحد أخاه، وكل واحد صاحبه مدينة - مدينة - ومملكة وتراق روح مصر داخلها، وتضيع مشورتها، فيسأل كل واحد العرافيين والتوابع والجن وأغلق على المصريين في يد حاكم قاس فيتسلط عليهم، وتجف الحياة من البحر ويجف النهر وتنتن الأنهار وتضعف السواقى ويتلف الزروع وتجف الرياض والحقول على ضفاف النيل، والصيادون لا يجدون صيدَا، وكل من يلقى بسطح إلى النيل ينوح، ويكتئب كل عامل بالأجرة" ......!!، وإمعانا في الحقد نقرأ:
-"لقد ألقى الرب عليها روح شريرة أوقعت مصر في ضلال وأضلت أبنائها، فإذا بهم يترنحون كالسكران في قيئه فلا يكون لمصر عمل يعمله رأس أو ذنب، في ذلك اليوم تكون مصر كالنساء ترتعد وترتجف من يد رب الجنود وهو يهزها، وتكون أرض إسرائيل ويهوذا رعبًا لمصر، كل من ذكرها يرتعد، في ذلك اليوم يكون في أرض مصر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان وتقدم القرابين لرب الجنود يقال لأحدها مدينة شمس، ويصرخ المصريون، ويقيمون في وسطهم عمودًا ومذبحًا للرب، فيرسل الرب لهم محلميًا مخلصًا يخلصهم ويرجعون للرب فيستجيب لهم ويشفيهم، فى ذلك اليوم تكون سكة مصر إلى آشور "سوريا"، فيجئ الآشوريون إلى مصر ويذهب المصريون إلى آشور، وتكون إسرائيل هي الثالثة وهي البركة في وسط الكل.....!!
واختتمت كلمتي بإضافة ما كشفه الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل، في مجموعة حوارات مع الإعلامية لميس الحديدى على قناة "CBC"، حيث تحدث خلالها عن رؤيته لأوضاع مصر والمنطقة، وضمن ما ذكره أن " التخطيط لتعطيش مصر بدأ منذ 800 عام تقريبا، وذلك عندما حصل الرحالة فاسكو ديجاما على تعليمات من البابا الكسندر الثالث بقطع المياه عن مصر عقابا لها على انتصار صلاح الدين الإيوبي على الحملة الصليبية"، مضيفا بأن قوى عظمي تسعى لتجويع مصر، وأن دولا ومرسومات بابوية وأباطرة في الغرب يتصوروا أن إنهاء الحروب الصليبية وإسقاط دور مصر سيكون من خلال تجويعها وقطع المياه عنها".