وليست الدنيا عتيقة بالية؛ لأنها تأتينا كل عام بربيع كالربيع الذي تقدَّمه، وليس الشاعر عتيقًا باليًا؛ لأنه يأتينا بذلك الربيع كما جاءت به الدنيا في حينه، موصوفًا على الصورة التي عهدها آدم في جنة الفردوس، ثم عهدها أبناؤه في جناتهم على هذه الغبراء؟ فالتجديد — في كلمتين — هو اجتناب التقليد.
وفي الحقل الأدبي عمومًا يرتبط مفهوم (الأجيال الأدبية Literary Generations) أو (الحِقَب الأدبية) بالدلالة العامة على التقاء مجموعة من الشعراء أو الأدباء أو المفكّرين حول مجموعة من الصفات والأفكار المشتركة التي تجمعهم تحت اتجاه أدبي واحد، ومن خلال هذا الاتفاق حول الفكرة، والتفاف عدد من الأدباء حولها يمكن الحكم على هذا الاتجاه أو غيره بالبقاء والخلود.
القصة الشاعرة بهذا المثابة هو اتجاه باقٍ مهّد سبلَه ورسم معالمَه محمد الشحات محمد بفقهه وفنه وإبداعه الجذور التي تغذي تلك الدوحة الكبيرة وارفة الظل طيبة الثمر، وها هو الآن يرى ثمار عمله الذي قضى شطرًا من حياته في تهيئة الظروف الملائمة لها؛ حتى أينعت وحق لها أن يبتهج بمرآها بعد أن أخلص في رعايتها.
فإن شرط الأدب الأول هو الإخلاص وصدق السريرة، ولا إخلاص مع المصانعة والمداهنة والملق، وإذا فقد الأدب الإخلاص فقد أهم عناصر الإبداعِ والتأثير، والإنسان يحترم القوة التي يكون مبعثها الإخلاص، وقد تروعه في البداية وتصدمه وتنفره. ولكنه لا يلبث متى تبين الإخلاص أن يقبل بعد النفور، وأن يتشيع في نفسه الإكبار والتبجيل.
وقد يطول الأمر، ويستبطئ الجمهورُ الأديب؛ ولكن كل شيء يحتاج إلى زمن يؤتي ثمرته.
وأنت تغرس البذرة في الأرض فلا تصبح شجرة بين صباح ومساء، وتربة النفوس أيضًا تحتاج إلى زمن حتى تنشق فيها البذرة ويمتد منها ما يكون جذوراً معرقة، ثم تَخرُج لها ساق تذهب في الجو، وتتفرع عليه الأغصان، وتورق وتنور وتثمر، ومازال صحيحًا أن في العجلة الندامة، والذي يستعجل الشهرة خليق أن يفوته ما هو أولى منها بالحرص عليه، وأعني به المجد الأدبي الصحيح.
محمد الشحات أحد هؤلاء الرواد المجددين في أدبنا العربي، "والمشاهَد في تواريخ الآداب أن «العصر الحاضر» في كثير من الأزمان يتعرض للظلم من بنيه، ويجد الإنصاف أحيانًا من لاحقيه، وممن يستطيعون بعده أن يوازنوا بينه وبين سواه.
يحدث هذا حين يُقاس إلى عصور الآداب القريبة منذ بدأت فيها نهضة التجديد، فلا نفتأ نسمع فيه صيحات النعاة الذين لا يعملون ولا يقدرون جهود العاملين، ولا يفتأ زاعمٌ يزعم أن الحاضرين مقصرون، ولا يقول لنا من هم السابقون الواصلون: أهم أدباء ما مضى قبل قرن من الزمان؟ أم هم أدباء ما يأتي بعد قرن آخر من الزمان؟
لا هؤلاء ولا هؤلاء يصح أن يُقال إنهم فعلوا ما لم يفعله الحاضرون في خدمة الآداب العربية، وقد يأتي العصر المقبل بجديد حسن — ونرجو أن يفعل ذلك ويجاوز المدى من حيث الظن والرجاء — ولكنه حين يأتي به يُحسَب له، ولا ينقص من حساب من تقدمه، بل يُضاف إليه.
إنه – أدبنا العربي - لا يزال طفلًا يتعثر ويتلعثم، وإن رعاية هذا الطفل مرهونة بعمل أدباء ومفكرين كل عصر، ولن يعدم التجديد ما بقيت العربيةُ لغةَ القرآن الكريم.
بيد أنه يجب أن يكون مفهومًا بالبداهة أن إصلاح الآداب شيءٌ غير تنقيح صِيَغ الألفاظ، أو تحوير أوزان الشعر، أو تعديل النحو والصرف، فإنما هو في الحقيقة لا يقل عن تصحيح حياة الأمة ومن ثَمَّ تصحيح التعبير عن تلك الحياة.
بعد هذه التوطئة التي لا غنى عنها والتي تطرح سؤالا غاية في الأهمية ويرتبط بمستقبل القصة الشاعرة: هل لهذا الاتجاه أتباع ومريدون؟! أم أنه يمكننا الحكم عليه بأنه اتجاه أبتر ينتهي ويتوقف عند إبداع رائده محمد الشحات محمد؟
إن الإجابة على هذا السؤال المشروع ليست سهلة؛ لأنها منوطة بضمير الغيب، وبضمير جيل من المبدعين الذين يولون وجههم شطر كل جميل من ضروب الإبداع الحق الذي يُعني بالإنسان وهمومه، وبالمجتمع ومشكلاته وصلة المبدعين بتلك المشكلات؛ لكن – مع كثير من التفاؤل – لدينا الآن طائفة من الشعراء المبدعين من شتى بقاع الوطن العربي أثبتوا أنهم على الدرب سائرون بخطى واثقة، وأن الاتجاه –القصة الشاعرة– له أتباع ومريدون ، وأنه لم يتوقف عند إبداع الرائد وحده.
وسوف نعرض لنماذج من إبداعهم وإبداع الرائد المؤسس؛ إثباتًا لما ذهبنا إليه من تأثير القصة الشاعرة وسماته في شعراء هذا الجيل؛ بل إن الأمر قد تجاوز ذلك؛ إذ إن ظهور هذا الجنس الأدبي على يد رائده منذ عشرين عاما كان سببًا رئيسًا في دعوات التجديد أو محاولاته المستمرة في جميع الأجناس الأدبية الأخرى؛ فدعا بعض الشعراء إلى الالتفات للبحور المهملة والمهجورة والقوافي الصعبة وكذا اللزوميات، واستحدثت تقنيات للقصة القصيرة والومضة والقصة القصيرة جدًا، كل ذلك محاولةٌ للسير جنبًا إلى جنب مع ما أحدثته القصة الشاعرة من تجديد.