بهي الدين مرسي يكتب: قراءات في الجراحة ... الموت هو نقطة الصفر لبداية الحياة

بهي الدين مرسي يكتب: قراءات في الجراحة ... الموت هو نقطة الصفر لبداية الحياة
بهي الدين مرسي يكتب: قراءات في الجراحة ...  الموت هو نقطة الصفر لبداية الحياة

من المشاهد المألوفة في غرفة العمليات لزوم تهيئة المريض لجراحة كبري ان يقوم الفريق المعاون "بغسل" المريض في حمام غرفته قبيل اقتياده لغرفة العمليات (المشهد الافتراضى في المشافي الكبري)، وسامحوني على استخدام لفظ "الغسل" على غرار ما يحدث مع الموتى.

يخلع المريض سرواله وجلبابه وغطاء رأسه وتنزع عنه الحلي والاساور والخواتم والاقراط (القرط هو حلق الاذن) ويلفظ طقم اسنانه وسمّاعة الاذن ... تماما كما يفعل الحانوتي مع الميت قبيل الغسل.

يرتدي المريض الجلباب الشرعي للجراحة الذي يحاكي الكفن، وهو الروب المفتوح ( Gown) بلا ازرار ولا جيوب ولا هوية فهو رجالي ونسائي وشبابي للبدين والنحيف ولكافة البشر وليس هناك تمييزا له سوى انه متاح في مقاس كبار وآخر للصغار.

يستلقي المريض على طاولة العمليات، ويقوم مَلَك التخدير بسؤاله عن اسمه وتشخيصه للتأكد من هويته وتهدئته بكلمات ناعمة وهو يحقن السبات في عروقه، فلا يتمم نطق بقية اسمه، وبعدها ينفصل عن عالم الوعي واليقظة ويستسلم لمبضع الجراح بلا الم، ولا آهات، ويصبح بلا حيلة ولا يقوى على الاعتراض، ولا يملك من حصص الحياة سوى الاحلام.

يقوم الجراح ومعاونوه بغسل جديد لموضع الجراحة بالمطهرات، ويلقى على بدن المريض ملاءة تغطيه كاملا وتتدلي لتغطى جوانب السرير الجراحي.

هذه الملاءة اسمها "الملاءة الشق" التى تستر كل البدن ولا تظهر الا مكان الجراحة، فليس مطلوبا مناظرة اي قيراط من بدن المريض سوى موضع القطع واللصق والنزع والحياكة.

هنا تكمن الفلسفة الحقيقية للجراحة، فمن حيث الشكل ليس هناك هوية للمريض بين يدي الجراح سوى ما يتاح له رؤيته من الجرح، ويتساوي عندئذ امام الجراح بدن رئيس دولة او بدن متسول. الرسالة هنا هي اخفاء هوية الادمي ليختزل ملف القضية كله في موضع الجراحة دون الاعتراف بهوية المريض.

تستمر الجراحة لساعة او اقل او لنصف يوم ... لا يهم، فالمريض ليس في عالمنا وتنقطع صلته بالحياة الا من انفاس محسوبة لا يتنسمها بارادته بل تضخ اليه عنوة من طبيب التخدير.

تنتهي محاكمة المريض وحسابه - اقصد الجراحة - ويتطهر من علته التي تحاكي ذنوبة ويعود انسانا جديدا الى زمرة الأحياء ان رجحت كفته، وإلا فقد يكمل رحلته الى البرزخ.

اذن التداوي بالجراحة يحاكي رحلة الموت من زاوية القراءة الفلسفية.

 

 

د. بهي الدين مرسي