ياسين العيوطي يكتب: من خلف ستائر الأمم المتحدة

ياسين العيوطي يكتب: من خلف ستائر الأمم المتحدة
ياسين العيوطي يكتب: من خلف ستائر الأمم المتحدة

عملت بالأمم المتحدة حوالي 32 سنة ، من عام 1954 إلى عام 1986. ولكل عمل ذكرى ، ولكل ذكرى قمة .وكانت القمه بالنسبه لي هي التحاقي بمجلس الأمن و هو جزء من الدائرة السياسية للأمانة العامة بالمنظمة العالمية .

كيف حدث هذا؟

كنت مديرا للاذاعة العربية بالأمم المتحدة لفترة 10 أعوام. وفجأة صدرت لي تعليمات من الامين العام ، اوثانت ان اكتب النظام الأساسي لمعهد جديد جديد وهو معهد الأمم المتحدة للتدريب والبحث “UNITAR” .استغرق هذا العمل عدة أشهر، اذ كان يستدعي التشاور مع كل معاهد التدريب والبحث في العديد من الوكالات الدولية المتخصصة مثل البنك الدولي و صندوق النقد الدولي والوكالة الدولية للطاقة الذرية. وحين الانتهاء من تلك المهمه، صدرت لي الأمر بأن اكون مساعدا خاصا للأمين العام المساعد المسؤل عن ذاك المعهد .وكما هو الحال في العمل الدولي، عادتني الامانه العامه بعد 7 سنوات من تلك الاعارة للعمل بادارة مجلس الأمن الدولي . كان ذلك بناء على رغبة الاتحاد السوفيتي ” الاسم السابق لروسيا ” في الاستفادة من خبراتي كمواطن عربي محايد من أجل تحسين صورة الحياد التي يتسم بها العمل بادارة مجلس الأمن . سألت نفسي : ماذا افعل كمواطن عربي من أصل مصري في ادارة يسيطر عليها امين عام مساعد من الاتحاد السوفيتي ؟ كان ذلك في عام 1972. مصر في ذاك الحين كانت دولة مغلوبة علي أمرها نظرا لاحتلال إسرائيل لشبه جزيرة سيناء . وعضوية مجلس الأمن الدائمة مقصورة  بحسب الميثاق مقدما علي 5 دول كسبت الحرب العالمية الثانية. وهي امريكا و بريطانيا و فرنسا و روسيا و الصين .

الاسهام المالي للدول العربية خارج إطار دول الخليج العربي اسهام محدود. و دول المغرب العربي لها من العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي أضعاف ما لها مع المشرق العربي . وادراة مجلس الأمن في يد السوفيت ،. وإدارة شئون العالم النامي في يد الصين . وكلاهما يرقب الاخر ، ويحاول اجتذاب الكفاءات داخل الأمانة العامة ، وهي ضئيله عدديا.

كنا في ديسمبر عام 1971. ونظرا لاعتمادي أستاذا بجامعة سانت جونز بمدينة نيويورك ، رأيت اعجابا بالامين العام للامم المتحدة ان يختتم ولايته بدكتوراه فخرية من تلك الجامعه .الا ان المرض السرطاني كان قد الم بفم الامين العام ، الامر الذي منعه من قبول ذلك الشرف إلى ان حان موعد مغادرته للامانه العامه . كان رجلا متواضعا لدرجة انه اعتذر عن الظهور بمفرده على مسرح مدرج الجامعة .واقترح ان يتم التكريم مع آخرين .وكان له ما اراد بعد ان قمت بعمل التسهيلات اللازمة لذلك الحفل التكريمي و باعتباري الأستاذ الذي اقترح المناسبة ، كان لي شرف وضع ملابس التكريم الجامعية لتغطيه  .وخلال قيامي بهذه المهمه، اذا برسول من الامين العام المساعد لشؤون مجلس الأمن وهو روسي ، واسمه فلاديمير بتروفسكي يظهر أمامي فجأة و بدون دعوه. يهمس في اذني بتعليمات من رئيسي الدكتور كوتاكوف : ” اريد نقلك فورا الي ادارتنا اذ اننا في حاجة إلى التحليلات  السياسية عن الشرق الاوسط و افريقيا .وليس لدينا من الخبراء في الامانه العامه غيرك للقيام بهذا العمل. وارجوك القبول فورا” .

اعلنت  قبولي ، اذ لم ارد ان تستحوذ الصين علي اسهاماتي بصدد أفريقيا ،وذلك حرصا مني على متابعة العمل في إطار تحليلات السياسة العربية  .

سالت سيد  بتروفسكي عن خلفية هذا القرار.كان صريحا معي وقال سوف تقوم بادارتها بإنشاء مركز لابحاث السلام.اضاف اي تساؤلاتي سؤال اخر : وماذا العجلة الان في هذا الامر؟ فقال ان وزير خارجية بجيكا المستر هارميل اعلن من منصة الجمعية العامة للامم المتحدة هذا المساء انه يطالب الأمانة العامة بإنشاء مركز أبحاث السلام داخل إدارة مجلس الأمن ثم اضاف الوزير البلجيكي تفصيلات اخري قائلا :  لدي الامين العام مدير سياسي اسمة الدكتور ياسين العيوطي الذي كتب مقالا مطولا للمجلات العلمية الأمريكية عن ابحاث السلام واضاف ان العيوطي قال في تلك المقالة هناك 2000 من هذه المراكز في كل أنحاء العالم.  ولذا يجب على الأمانة العامة ان تقوم بمساعدة تلك المراكزومحاولة التنسيق بين جهودها .

وكنت قد ربطت في تحليلاتي بين اهتمام الأمم المتحدة بصيانة السلم والأمن الدوليين و الاعمال المكثفه التي تقوم بها كل هذه المعاهد المنتشرة بكل انحاء العالم.

وهكذا بدأ عملي بالإدارة السياسية لشئون مجلس الأمن الذي تمحور حول إعداد مذكرة اسبوعية عن ابحاث السلام و ايضا عن أوضاع العال  م العربي ذات الطابع الدولي . ورأت إدارة مجلس الأمن ان تحمل تلك المذكرات عنوانا رئيسيا وهو “سري غايه ” ولم تكن هناك زريعه لتلك التسمية .ولكنها كانت الطريقه الروسية لمنع المعلومات عن خصومها من الدول العظمي .واستمرعملي هذا عدة شهور  وبلغ عدد التحليلات التي اعددتها  رقم 73.واذ بي اتلقي اتصال تليفوني من مكتب الأمين العام في ذاك الوقت وهو النمساوي كورت والدهيم جاء فيها ” الأمين العام يسال اين ال 72 مذكرة سابقة على ما وصل اليه حتي الآن؟”. فوجئت بالسؤال .وتوجهت فورا الي السيد دنلوسكي” : اساله : باديمير ماذا حدث بالمذكرات المفقودة ؟”.ضحك قائلا : ان شيء لم يفقد .لقد أرسلنا مذكراتك كلها إلى موسكو وتركنا لموسكو لاصدار اي تعليمات خاصه بالامين العام للامم المتحدة .

دخل الامر اذا  في لغز لم يكن بيدي حله الي ان انتهت ولايه ولدهايم الذي خلفه السيد بيريز دي كويلارمنكيرو . بعد ذلك بكثير ظهرت الآسرار  داخل الأمانة العامة وما أكثرها في ذلك المبنى الزجاجي الذي يقوم بجانب النهر الشرقي بمدينة نيويورك .اتضح من تلك التهامسات ان والدهايم كان مخلابا لقط النازية في اليونان خلال الحرب العالمية الثانية ، وأنه كان له دور كبير في المحرقه اليهوديه .السوفيت يعرفون هذا ولكن رأوا ان صالح موسكو يستدعي التغطيه علي ذلك الأمر لاستغلال منصب والدهايم داخل الأمم المتحدة في كل امر يهم موسكو طالما أنه كان في منصبه الرفيع .

كل هذه الشواهد تدل علي انه كانت حقائق مستترة يرفع من مصداقيتها الكثير من الأدلة التي ظهرت فيما بعد ،وهي أدلة على تداخل السياسات الداخلية للأعضاء مع سياساتها الخارجية.

وهنا نتساءل: وماذا عن نصوص ميثاق الأمم المتحدة التي تمنع التدخل  في الشئون الداخلية للدول الأعضاء ؟ ماذا عن المادة رقم 2 فقرة رقم 7 من الميثاق التي تحول دون الدخول في المسائل الداخلية للدول الأعضاء ؟.

القانون الدولي شىء وممارسات السياسات الدولية شىء آخر وإن كانت الحاجة تدعو إلى الخروج عن نصوص الميثاق ،ثم العمل بعد ذلك علي ايجاد  تفسيرات ظاهرية للتغطية على ذلك  الانزلاق خارج نصوص ميثاق الأمم المتحدة والممارسات العرفية للدول الأعضاء .

هناك جانب آخر لهذا الموضوع : ينص التعاقد مع الموظف السياسي الدولي علي ان يمتنع عن تلقي اية تعليمات ليست صادرة من الامين العام ،ذلك ان التعاقد لوظيفة الدولية هو بين الأمين العام والموظف الدولي. ولكن الخروج عن هذا الإطار كثير ومتعدد كلما دعت الحاجات السياسية للدول أن تفعل ذلك .ومن أكثر المخالفين لنصوص الميثاق في هذا الأمر هم الأعضاء الدائمون بمجلس الأمن الدولي.وهو مجلس من العسير إصلاحه وخاصه فيما يتعلق بالفيتوالذي تتمتع به الأعضاء الدائمين بالمجلس  وهم امريكا و بريطانيا و فرنسا و روسيا والصين .

معذرة عن الإطالة في هذا الوصف الذي قد يبدو في ظاهره من قبيل المدح الذاتي، ولكنه في الواقع طريقه لعرض التشابكات في العمل السياسي بالامانه العامه للامم المتحده والحيادة الظاهرية