منذ صغري، وأنا مولع بـ "لعبة البازل"، تسمى هذه اللعبة بلغة الساسة الكبار، "علم الاستراتيجيات" أو "التحليلات والدراسات السياسية" أو ما شابه من مسميات عملية وعلمية تنبع من ماضي وواقع واستشراف للمستقبل ......إلخ.
تلك الكلمات، تجرني جرًا إلى النظر بعمق لما يجرى الآن على الساحة السياسية العالمية، بداية من الحرب الصهيونية "القذرة - المفتعلة" ضد أهلنا في غزة، مرورًا بملفات: ليبيا، سوريا، اليمن، العراق، ثروات شرق المتوسط و..... ، ختامًا بسد الخراب الإثيوبي كسلاح وجود ضد: مصر والسودان.
وكل ملف مما أشرت له بالطبع: رجاله، أهدافه، خططه، ووسائل تنفيذه، والقوى العالمية التي ترعاه، وما يعنيني هنا حاليًا، هو ربط حرب الإبادة والاستيطان الصهيوني الدائرة الآن ضد فلسطين، بالأطماع الصهيوينة في أرض الفيروز بعد تضييق الخناق على سكان غزة، ثم أطماع نفس المحتل اللعين في حصة من مياه النيل عن طريق أراضينا.
وكخطوة أولى من سلسلة مقالات تُعني بالملفات المُشار إليها، سأبدأ بمؤلف للكاتب الصحفي الراحل كامل زهيري - نقيب الصحفيين الأسبق ورئيس اتحاد الصحفيين العرب - بعنوان "النيل في خطر: مشروعات تحويل مياه النيل، من هرتزل إلى بيجن 1903 – 1980".
يتناول المُلف قضية التطلعات الإسرائيلية إلى الحصول على حصة في مياه نهر النيل، حيث تعود تلك التطلعات إلى جذور أقدم بكثير من إنشاء الكيان الإسرائيلي نفسه في عام 1948، حيث ترجع إلى وقت نشأة المنظمة الصهيونية على يد تيودور هرتزل، الذي اهتم شخصيًا منذ البداية بتلك القضية، وبذل مساعي حثيثة لتنفيذها على أرض الواقع، قبل شروعه في جهوده المعروفة في تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
استند "زهيري" في كلامه على عدد من المصادر والوثائق المهمة، من أبرزها "يوميات هرتزل" الكاملة المنشورة في نيويورك عام 1960 بعد أكثر من 50 عامًا من وفاته، وعلى وثيقتين مهمتين نقلهما "زهيري" إلى العربية لأول مرة، وهما: "نص مشروع امتياز توطين اليهود في سيناء" الذي عرض على اللورد كرومر – القيادي الاستعماي البريطاني - وبطرس غالي - رئيس النظار المصري – آنذاك، ونص "تقرير البعثة الفنية" التي أرسلتها الحكومة البريطانية إلى مصر، بالاتفاق بين "هرتزل" والزعيم السياسي البريطاني جوزيف تشمبرلين في 3 مارس 1903 على:
"الحالة الراهنة كما يلي: الوجود في شبه جزيرة سيناء مختلط بين (امتلاك، قوة، حق) على نحو يصب في صالحنا، الامتلاك بيد الحكومة المصرية، والقوة بيد الحكومة البريطانية، أما الحق، فللحكومة العثمانية التركية، لذلك يجب أن أحصل على الملكية من الحكومة المصرية، ثم من الحكومة الإنجليزية بأكثر ما يمكنها إعطاؤه، وأخيرًا أحصل على الحق من الحكومة التركية بالبقشيش، ستكون تعليماتي للمفاوضين الجدد جولدسمد وكسلر متماشية مع هذا المخطط".
لاحظ هنا عزيزي القارئ لتلك الحروف المسمومة، وهذه الأطماع المُخطط لها بخبث وحقد صهيوني "قذر" للنيل من أقدس بقعة على ظهر الأرض (سيناء الحبيبة).
فقبل هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، اتجهت الجهود المبكرة للحركة الصهيونية حديثة التكوين آنذاك، في البحث عن وطن قومي لليهود، في دراسة عدد من الخيارات البديلة، كان من أبرزها الاستيطان في وطن بديل مؤقت في أوغندا أو الأرجنتين، دون التخلي هنا عن حلم إقامة دولة تجمع الشتات اليهودي على أرض فلسطين عندما تسنح الفرصة.
طبعا هذه الروية الخبيثة، تم وضعها كنقطة متقدمة للوثوب إلى فلسطين، لذا سعت المنظمة الصهيونية التي يمثلها الصهيوني "هرتزل" إلى توطين اليهود في العريش، والحصول على امتيازات من: الاحتلال البريطاني والحكومة المصرية لهذا التوطن، بجانب إنشاء موانئ وفنارات في منطقة شرق قناة وخليج السويس على امتداد الحدود بين القطر المصري وفلسطين التاريخية، المنصوص عليها في فرمان تولية محمد علي باشا من الدولة العثمانية، أي من البحر الأبيض شمالًا، حتى خط عرض 29 عند نهاية مساقط مياه وادي العريش ومرتفعات التيه، والذي يمتد من أبو زنيمة على ساحل خليج السويس وصولًا إلى نويبع على ساحل خليج العقبة.
ولمواجهة مشكلة ندرة المياه في تلك المنطقة، اقترح الصهيوني "هرتزل" على لانسدون - وزير خارجية بريطانيا آنذاك - مد أنبوب على عمق كبير تحت قناة السويس لضخ مياه النيل إلى شبه جزيرة سيناء......!!
يقول الصهيوني "هرتزل" في مذكراته بتاريخ 20 يناير 1903، "إنه أعطى تعليماته للبعثة الفنية التي ستذهب إلى مصر بإعداد تقرير ميداني عن إمكانية الاستيطان في تلك المنطقة من سيناء، ويسرد الأخير تفاصيل وافية عديدة في هذا الإطار، منها: تحديد خط سير الرحلة، مصدر الحصول على الخرائط، حتى أماكن شراء بعض اللوازم البسيطة كالدفاتر وأقلام الحبر"......!!
وفي سرية تامة، قامت تلك البعثة الاستعمارية بأعمالها، وأعدت تقريراً من 8 صفحات مؤرخ بـ26 مارس 1903، عن السكان والحياة الحيوانية والزراعية في تلك المنطقة من سيناء، بالإضافة إلى مقترحات عن بناء خزانات مياه واستغلال المياه الجوفية، ومقترحات عن أنواع المحاصيل والأشجار التي يمكن زراعتها هناك، والصناعات الممكن تدشينها، المرتبطة بتلك الزراعات.
في تلك الأثناء، كان "هرتزل" قد وصل إلى مصر، وتحديدًا في 23 مارس 1903، والتقى في القاهرة "كرومر"، وكشف له عن أطماع عصابته إلى حاجة لسرقة مياه النيل، والتقى هناك أيضًا برئيس الوزراء المصري بطرس غالي، بناء على التقرير الفني المشار إليه، وهنا تقدم "هيرتزل" للحكومة المصرية بمشروع اتفاقية للحصول على امتياز الاستيطان في سيناء، يحتوي على 14 بندًا، منها بند ينص على: "وتكون مسألة توفير مياه النيل لشبه الجزيرة، موضع اتفاق لاحق"......!!
وهنا جاء القول الفصل، ردًا على مشروع الامتياز الذي أعده هذا الصهيوني الخبيث "هرتزل"، من الحكومة البريطانية، عبر تقرير السير وليام أدموند جارستين - وكيل وزارة الأشغال العمومية آنذاك تحت ضغط الحكومة المصرية، وبالاشتراك مع فيرشويل - مفتش الري بدلتا مصر - الذي فند تقديرات المشروع الصهيوني من الناحية الفنية والهندسية، وأوصى بعدم قبوله، ومن ثم جاء رد الحكومة المصرية برئاسة بطرس غالي بالرفض بناء على نتيجة التقرير.
بتاريخ 27 نوفمبر 1979، بدأنا في حفر ترعة السلام، بين فارسكور والتينة عند الكيلو 25 طريق الإسماعيلية وبورسعيد لتتجه نحو قناة السويس بهدف ري نصف مليون فدان، وقد التفت الرئيس السادات إلى المختصين، وطلب منهم عمل دراسة علمية كاملة لتوصيل مياه النيل إلى القدس لتكون في متناول المؤمنين المترددين على المسجد الأقصى ومسجد الصخرة وكنيسة القيامة وحائط المبكى......!!
هذا الكلام الخطير – والخطير جدا – لفت انتباه "زهيري"، فقال في مؤلف "أنه في مجلة أكتوبر، العدد 46، 24 ديسمبر1979، وبالمصادفة خلال متابعته لما تنشره الصحافة الإسرائيلية عقب حرب أكتوبر عام 1973، قرأ مقالًا في عام 1974 لرئيس هيئة تخطيط المياه في إسرائيل، المهندس إليشع كيلي، يقترح فيه الأخير إحضار مياه النيل من مصر إلى صحراء النقب، بعد إتمام السلام لحل أزمة المياه القادمة في إسرائيل.
وقد أعطى "إليشع" في مقاله تصورًا تفصيليًا عن المشروع، الذي يتم من خلاله إمداد إسرائيل بـ30 متراً مكعباً من المياه في الثانية، بما يكفي لاحتياجاتها في ذلك الوقت، عبر أنابيب تمر تحت قناة السويس عند محافظة الإسماعيلية، وفي الجانب الآخر، تصب المياه في قناة مبطنة بالخرسانة، بالقرب من طريق العريش – القنطرة، ومن هناك تسير بمحاذاة طريق (غزة – العريش) حتى خان يونس. ومن هناك يتشعب مجرى المياه إلى خطين، خط اتجاه قطاع غزة، وخط آخر للنقب في اتجاه بئر سبع.
هنا بدت الفكرة أمام "زهيري" من الخطورة بمكان، على نحو أخطر من معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية نفسها، حيث تنتهي بالمعاهدات كما يقول بالحروب وتغير الموازين الدولية، بينما إعطاء إسرائيل مياه النيل بدا للأخير أشد خطرًا لأنه يحول العلاقة التعاقدية إلى علاقة ماء وحياة، ويعطي إسرائيل حق ارتفاق على مياه النيل يدوم بدوام جريانه.
لأن الفكرة صادرة من موظف في هيئة التخطيط الرسمية للمياه في إسرائيل، وبسبب تصريحات الرئيس السادات الذي كان مستعدًا للذهاب إلى آخر المدى في مشروعه للتسوية مع إسرائيل أيضًا، تعامل الكثيرون في مصر مع ذلك الموضوع بجدية بالغة، وانضم لزهيري في هذا السياق العديد من الشخصيات السياسية والأكاديمية البارزة، ودارت سجالات برلمانية وصحفية واسعة في ذلك الوقت حول تلك القضية، غطاها زهيري في كتابه في فصل بعنوان «الأحزاب والقوى السياسية في مصر تدخل معركة الدفاع عن النيل».
من أبرز الأسماء الموجودة في هذا الفصل من الكتاب فتحي رضوان، الصحفي الشهير ووزير الإرشاد القومي في بداية عهد ثورة يوليو/تموز 1952، والمهندس إبراهيم شكري، زعيم حزب العمل الاشتراكي ووزير الزراعة الأسبق في عهد السادات، وعبدالعظيم أبوالعطا، وزير الري المصري الأسبق، ومحمد حلمي مراد، وزير التربية والتعليم الأسبق، والكاتبة المصرية المعروفة نعمات أحمد فؤاد، ود. حامد ربيع، أستاذ العلوم السياسية.
يذهب هؤلاء وغيرهم من الأسماء الأخرى الموجودة في الكتاب، إلى حاجة مصر إلى كل نقطة من المياه التي تصلها من حصتها السنوية في نهر النيل، بل وحاجتها أيضًا إلى مزيد من الموارد المائية للتوسع الزراعي الأفقي، الذي يُفترض أن يواكب الزيادة السكانية المتنامية في مصر، فضلًا عن اعتراضهم المبدئي علي فكرة مد إسرائيل تحديدًا بالمياه، التي ستستخدمها في التوسع الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة.
هذه هي إسرائيل على مر عدة عقود سياسية، فلم يقف عداؤها عند حد معين، بل سعت للتحالف مع الدول والقوى المحيطة بالعالم العربي، كان على رأسها إيران الشاه، وتركيا، والأكراد، وأثيوبيا، بجانب التحالف مع الأقليات داخل العالم العربي، للضغط على القلب الجغرافي للعالم العربي، واصطلح على هذه الإستراتيجية بسياسة "شد الأطراف".
في ظل العلاقات السياسية والعسكرية والتحالف الوثيق بين إثيوبيا وإسرائيل، وفي ظل وجود أكثر من 50 شركة إسرائيلية تعمل في تحت إشراف آبي أحمد – رئيس الوزراء الإثيوبي النتهية ولايته - في مجالات تتصل ببناء بسد الخراب، من خلال عقود مبرمة بين أديس أبابا وتل أبيب، يعتقد مراقبون أن اكتمال هذا السد سيؤدي إلى خلق واقع جديد يجعل وصول المياه إلى مصر بالكميات التي تحتاجها، رهن بوصول المياه إلى إسرائيل.
وهذا ما سبق ونشرته جريدة "العربي الجديد" وفق مصادر رسمية - بحسب ما تقوله الجريدة "إن الاتفاق الثلاثي بين القاهرة وأديس أبابا وتل أبيب حول مسألة سد الخرابي، أصبح غير مستبعد في ظل الموقف الصعب الذي مرت به مصر خلال المفاوضات المصرية الإثيوبية حول مدة تخزين بحيرة السد"، وللحديث بقية.