وهمٌ كبيرٌ أن نضع العالم المثالى حيث الأخلاق الجمّة والمعرفة الكاملة والسلوكيات الرائعة نموذجاً يتحتم علينا بلوغه. ووهمٌ أكبر أن نسعى إلى صحافة وإعلام لا تشوبهما نميمة أو يعكر ملائكيتهما القيل والقال. لكن كل شىء بالمعقول. وفى أعتى منصات العالم الصحفية والإعلامية تطوراً وتقدماً ومهنية، هناك صحف وقنوات مخصصة للنميمة والقيل والقال وفضائح الفنانين والشخصيات العامة. لماذا؟ لأنها تبيع وتحقق الـ«ترافيك» ومن ثم الانتشار والربح.
لكن فى هذه البلاد البعيدة، البضاعة المطروحة متنوعة. وأقفاص الطماطم لا يختلط بها البطيخ أو الفسيخ. لماذا؟ لأنه معروف أن هذه المنصة الإعلامية رصينة وتلك نصف رصينة وهذه فضائيحة من ألفها إلى يائها. ربما تتناول المنصة الرصينة فضيحة الفنانة الفلانية، لكنه يكون على سبيل التحليل أو الربط السياسى أو ما شابه. ولأن هذه البلاد العجيبة تصالحت مع نفسها ومع الواقع، ولم تعد متشبثة بالكنيسة مراقباً على ما ظهر من أفعال وأقوال، ونبذت منظومة بيع صكوك الغفران، فإن من يرغب فى متابعة الفضائح يعرف طريقه، ومن يرغب فى النهج الرصين يعرف طريقه أيضاً. لذلك حين تطالعك أخبار وصور عارضات الأزياء والممثلات الشابات اللاتى خرقن قواعد كوفيد-19 وتوجهن إلى شواطئ دافئة واستعرضن أجسادهن الرشيقة، فإن الدنيا لا تنقلب رأساً على عقب، ويتحول المشهد إلى «خلطبيطة» من النوع المعتبر.
فيرفع الأستاذ المحامى قضايا ازدراء أخلاق وقيم وقواعد ودين عليهن جميعاً مطالباً بإعدامهن ويجول على برامج الـ«توك شو» صارخاً مدافعاً عن الفضيلة، وينوح المذيع الشهير فى برنامجه الليلى مطالباً بإخضاع ملابس العارضات والفنانات للبحث والتحليل لإضفاء صفة الحشمة عليها حفاظاً على الوطن والمواطنين، ويهرع المواطنون الشرفاء بالملايين لمشاهدة الصور قبل الحذف فيحتفظ بها البعض على هواتفه المحمولة لتداولها سراً بين الأصدقاء ويسارع البعض الآخر- بعد أن يملّى عينيه بصورهن- لوصمهن بالفسق والفجور ويلصق التهمة بالنظام السياسى الذى ابتعد عن الدين وحارب المتدينين. هناك فى هذه البلاد البعيدة تعدوا مرحلة «اللغوصة». وسلموا بأن من يبحث عن الرصانة سيجدها،
ومن يبحث عن الهلس سيجده. أما الهلس الوسطى الجميل الذى نحاول «التشعلق» بتلابيبه حيث جانب من إعلامنا يقدم نفسه على أنه رصين، لكنه عين فى الجنة وعين فى النار، فيقدم هلساً مشوباً بالحذر لضمان نصيبه من كعكة الـ«ترند» فيعرض الصور التى تشوبها شبهة تهمة الفسق والفجور ثم يهرع إلى إلحاقها ببضع كلمات عن الفضيلة والحشمة، وينصب الصحفى أو الإعلامى نفسه قاضياً وحاكماً، وربما يتحفنا بصورة فتيات مؤدبات ملتزمات ارتدين الفساتين نفسها مصحوبة بـ«بودى كارينا» ليلقننا درساً فى الصح والخطأ. ويظن الأخ أنه بذلك قد أمسك بالعصا من المنتصف، فـ«الترند» لم يفته، وفى الوقت نفسه أرضى الهسْهس الشعبى المنتشر المتأرجح بين الإغراق فى التحرش والإفراط فى التدين. وللأسف أنه بالفعل يرضى الكثيرين ويسعدهم.