عاد الفيروس اللعين إلى حصد الأرواح، وعدنا إلى رعبنا منه ومتابعة أعداد الإصابات وتقطع علاقتنا الاجتماعية أو انكماشها، وعادت الأجواء الرمادية تغطي مزاجنا بشكل عام. نمشي في الشارع مرتدين الكمامات لكننا خائفون، نركب المواصلات العامة مرتدين الكمامات لكننا خائفون، نذهب إلى أعمالنا حتى بعد تقسيم حضورنا بالكمامات خائفون. بين تعليقات الإطراء على ارتدائنا للكمامات ورش الكحول ومسح المكاتب وكراسي المواصلات وأسطح مكاتبنا وبين تهكم البعض على هذا الحرص على التعقيم معللين سخريتهم أن كثيرين أصيبوا وهم في منازلهم، وكثيرين لم يصبهم الفيروس، بينما هم جالسون يبيعون في الأسواق يوميا دونما كمامات وغيرهم مثل عمال النظافة حتى أنني غضبت من القياس الخاطئ وغضبت أكثر من اختيارهم لهذه الفئة التي لولاها لعشنا وسط القمامة ومتنا من الأمراض.
حتى أنني تصورت أنهم يستكثرون عليهم نعمة الله وفضله وعنايته بهم.
تذكرت أيضا هؤلاء المحبطين الذين يوزعون طاقات سلبية على من حولهم ويطفئون شعلة التفاؤل لديهم ونحن في أمس الحاجة إليها، في هذه المحنة. يبدو أنهم لا يعرفون أهمية أن يصمتوا أو يقولوا خيرا فقط كما أمرهم الرسول" فليقل خيرا أو ليصمت" تذكرت أجواء فيس بوك، التداول المحموم لخبر ما. صورة ما. كارثة ما، دونم أن يكلفوا أنفسهم بالتحقق من الأمر من جميع جوانبه. تذكرت واجب التريند الذي يشبه واجب العزاء في قريب من الدرجة الأولى. وكان العالم سيكتب اسمه في دفتر الغياب عن الدنيا في هذا اليوم إن لم يكتب هو أيضا عن الحدث. يكتب وفقط. يعجن الخبر ويخبزه هو أيضا ولا يقول كلمته. كيف لايدلوا بدلوه هو أيضا هل تنقصه يد أو رجل أو عين.
بحثت عن سبب الغضب الذي يعتريني كلما رأيت ذلك، عن سر نفوري منه ولماذا يتكرر كل مرة ولا أستطيع تقبله وأنا التي لا تحاكم أحدا ولا تقيس تصرفات الآخرين وردود أفعالهم من منظورها الخاص وتعلن في كل مكان لكل من يتحدثون معها فيما يتعلق بالأمور الحياتية أن لكل شخص حياة مختلفة ولكل شخص طريقته التي يحيا بها ولكل شخص مازورته التي يقيس بها وعليها أفعاله وردود أفعاله وتصرفاته، ونهجه. وأن الفيصل لدينا هو أن هذا الشخص لا يؤذينا ولا يفرض طريقته على حياتنا ويطلب منا أن نتبع طريقته ولا يحاكمنا أيضا. هذا شخص لطيف بامتياز لأنه يحترم حدوده وحدود الآخرين.
فقفزت الاجابة إلى رأسي وهي أن كل من هب ودب يجلس في كرسي الفقيه ويصدر الفتوى ولا يقول في ختامها هذا والله أعلم. الكل صغير وكبير. يفتي وبثقة تدعو إلى الغثيان. كنت أغض الطرف عن أشياء بعينها في السنوات السابقة وأقول لنفسي: بعد يناير حدثت حالة ثورية في درجة الوعي وهذه الثورة كسرت حاجز الخوف داخل الناس فأصبح الأمر عاديا جدا - أن تعبر عن رأيك في كل الأشاء كل يوم - وساعد على ذلك بكل تأكيد فيس وتويتر على الأكثر. لكن المزعج هو أن تفتي في السياسة مثلا أو في أزمة اقتصادية أو اجتماعية وأنت نائم على سريرك لمجرد إثبات حضورك. المزعج أننا لا نترك الفتوى للمتخصصين. والمزعج أكثر هو أن البعض يسفه آراء هؤلاء العلماء والمتخصصين الذين يعلمون من الأمر ما يخفى علينا نحن غير المتخصصين أو العامة. ولمحصلة يا سادة. شائعات، أو لغط، أو تشوش في الرأي العام. إنني بلا شك مع حرية التعبير لكني مع أن نعطي العيش لخبازه أيضا.
فيا أيها المحبطون ويا أيها المفتون في المواقع بغير علم ولا واقع أرحمونا، اتركوا لنا فرصة للتفاؤل والفرح. نحن الفئة التي لا تمتلك يقينا سوى اتباع يقين المتخصصين، ونقول يارب يارب أصلح لنا الأحوال وأعنا على عبور المحنة وقنا والبلاد والعباد شر البلاء والوباء وانقذ العالم، كل العالم يا ذا الرحمة المنة.