لعلّ السؤال المقلق لا للأمريكيّين فقط بل لبقيّة العالم منذ نهار الأربعاء الفائت هو التالي: "هل الديمقراطيّة الأمريكيّة في خطر؟ وإذا كان ذلك كذلك، فهل يعني أنّ ارتدادات ما جرى وما يمكن أن تجري به المقادير في تلك الدولة - الإمبراطوريّة، سيؤثّر حتمًا على منظومة ؟ الحياة السياسيّة بأشكالها وأنواعها حول العالم، ما قد يسمح بخفوت الديمقرطيّة وصعود الأنظمة القوميّة؟
بضعة أسئلة جوهرية تواجه الباحث في الشأن الأمريكي حول سلوك ترامب بعد نتيجة الإنتخابات الأخيرة، ومنها لماذا هذا الإصرار على أنه الفائز من جهة، وماذا عن أمريكا بعد رحيله، وهل ستكون نفسها أمريكا التي تسلمها قبل أربع سنوات أم أمريكا جد مختلفة، وما هي أوجه الاختلاف؟
بداية وبدون تعقيد المشهد هناك من يرى أن ترامب لديه الحق في أن يبقى على موقفه من الإنتخابات، فقد جرى تزوير على مستوى وطني، تم من خلال نظام ماكينات الإقتراع عينها، الأمر الذي يرقى إلى درجة مؤامرة من قلب الدولة الأمريكية العميقة ضد الرجل، وهولاء يعدوا بالملايين، ومنتشرين في طول الولايات المتحدة وعرضها، من شمالها إلى جنوبها.
فريق أخر يرى أن ترامب بتمسكه الدعائي والإعلامي حول قصة فوزه ورفضه للهزيمة، إنما يمهد لصفقة ما مع الإدارة الديمقراطية القادمة، تضمن عدم التعرض القضائي له أو توجيه إتهامات بعد خروجه من البيت الأبيض، وفي المقابل سيكون الثمن هو توقفه عن الهجوم على الإدارة الجديدة والتشكيك في شرعيتها، وحتى تتفرغ الأخيرة للقضايا المعقدة التي تجابهها واشنطن، من جائحة كورونا، والإقتصاد المعتل والمختل، إلى الاضطرابات المجتمعية الداخلية.
على أن الإشكالية الحقيقية في الولايات المتحدة الامريكيه موصولة بقصة أكثر خطورة على مستقبل البلاد والعباد، أنها قضية بقاء أمريكا موحدة وعلى قلب رجل واحد، أمريكا ذات النسيج المجتمعي الذي لا يتفكك، والذي كفل لها البقاء متسنمة قمة العالم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الساعة.
تاريخيا يعرف القاصي والداني أن أمريكا مصابة بداء الإزدواجية، وتكافوء الأضداد في الروح الواحدة، أي ما بين أمريكا المثالية وأمريكا الواقعية، وبين أمريكا الجيفرسونية وأمريكا الويلسنية، وقد جاء ترامب ليشعل نيران التشظي المجتمعي، وفيما يترك البيت الأبيض، تبدو الولايات المتحدة منقسمة بشكل غير مسبوق.
* ترامب والقاعدة الشعبية الانتخابية :
ولعل الناظر إلى نتيجة التصويت يدرك أن هناك أكثر من سبعين مليون من الامريكيين قد صوتوا للرجل، ما يعني أن له قاعدة جماهيرية عريضة في الداخل الأمريكي.
على أن الأمر الفارق في هذه الإنتخابات هو أنها جرت برسم يتجاوز التوجهات السياسية أو المنافسة بين حزبين، إذ غذتها خلافات أعمق تتصل بروح أمريكا وجذورها، ويمكننا القول بنيتها التكتونية الهيكلية .. ماذا يعني ذلك؟
بإختصار غير مخل، لقد أشعل ترامب أزرار معركة لفت إليها من قبل عدد من مفكري أمريكا ومنظريها، ومنهم صموئيل هنتنجتون، في كتابه العمدة "من نحن "، ومحورها الصراع الهوياتي الكامن في النفس الأمريكي، فهناك تيار يرى أمريكا بيضاء نقية تقية من غير أن يختصم أحد من روحها، وأن الإجناس والأعراق المختلفة التي أرتحلت إليها في وقت مبكر، قد قبلت بفكرة بوتقة الانصهار، أي التخلي عن أي تمايز عرقي أو هوياتي، لصالح المجموع الأمريكي.
على الجانب الأخر هناك من يرفض هذا التوجه، بل ويعتبره عنصري، ويرى أن أمريكا لوحة من الفسيفساء، وفيها يتوجب على كل جنس او عرق أن يحتفظ بهويته ومكوناته الثقافية، وأن يكون له الحق في أن يمد جذوره بعيدا وأن يشكل من حضوره في أمريكا جسرا مع الماضي، يصله ولا ينفصل عنه
* ماذا حقق ترامب ناحية صراع الهوية الامريكيه ؟
نفخ ترامب في أصحاب التوجه الأول، والذين يتذكرون مشهد حمله للكتاب المقدس أمام إحدى كنائس واشنطن خلال تظاهرات الصيف الماضي، عليهم أن يتفهموا كيف أن الرجل كان يبعث برسالة إلى مريديه من المتطهرين أو البيوريتانيين، هدفها الواضح ضرورة الحفاظ على المكتسبات الخاصة بالرجل الأبيض، وعدم السماح بتغيير طبيعة التركيبة الديموغرافية الأمريكية بنوع خاص، ومن هنا أيضا يتفهم القارئ لماذا كانت مواقف ترامب من مسألة الهجرة والمهاجرين متشددة إلى حد بعيد جدا.
سيغادر ترامب البيت الأبيض، لكن روح الترامبية ستظل ساكنة في عموم البلاد، وغالب الأمر فأن ترامب سوف ينفخ مرارا وتكرارا في هذه الروح لكي تظل مشتعلة، الأمر الذي لن يقوى عليه سوى توجيه الدولة الأمريكية العميقة نيران أسلحتها الخفية عليه لإجبار على الصمت ومن هنا فقد
نجح ترامب في مغازلة الرجل الأبيض الذي بات يخشى على أكثريته وسط تحولات ديموغرافية قَلَّصت سيطرته إلى حدود 60 في المئة من تعداد السكان، فيما أقليات وعرقيات أخرى تتصاعد حظوظ أرقامها
وخلال ثلاثة عقود سيتراجع الرجل الأبيض حتما، وبحلول نهاية القرن الحادي والعشرين، ستصبح أميركا جمهورية أخرى غير تلك التي وضع لبناتها جورج واشنطن، وتوماس جيفرسون، أو بنجامين فرانكلين، وغيرهم من الآباء البيض المؤسسين
* الاحترام من اسس مقومات العدالة :-
ولعلّ نظرةً عُليَا إلى واقع حال الولايات المتّحدة الأمريكيّة يكشف لنا وإلى حَدٍّ كبير، أنّ هناك قصورًا كبيرًا يصل إلى حدّ الخلل في ركيزتَيْ الاحترام والعدالة، وعلى غير المصدّق أن ينظر إلى آخر خطاب لحالة الاتّحاد في الكونجرس الأمريكيّ، حين رفض الرئيس ترامب مصافحةَ رئيسة مجلس النُّوّاب نانسي بيلوسي، قبل أن يُلقي خطابَه، وعليه فما كان منها سوى أن قامت بتمزيق الخطاب بعد انتهاء الرئيس من إلقائه، في مشهد لم يترك لجمهوريّات الموز بالفعل أيّ مجال.
والشاهد أنّه إذا كان هذا هو حال الاحترام المُتبادَل، فهل العدالة أفضل وضعًا؟
يمكن للرئيس ترامب أن يؤمن بما يشاء من تزوير الانتخابات، فهو حرّ في ذلك، لكنّ كون قيادات جمهوريّة تقدّميّة، بعضها حتمًا سيكون له شأنٌ رفيع في قادم أيّام الحكم في البلاد مثل السيناتور الناشط "تيد كروز"، تؤمن بأنّ هناك خللاً ما حَلّ بالعدالة الأمريكيّة عبر تزوير إرادة الناخبين، فهذا يُدَلِّل قولاً وفعلاً أنّ هناك شيئًا ما خطأ، حَتّى ولو لم يُقَدَّر اكتشافه في التوّ واللحظة.
* ما هو العطب الكبير الحقيقي الذي يجعل الديمقراطية الامريكية في خطر :-
العطب الكبير الذي يجعل الديمقراطيّة الأمريكيّة في خطر، يتمثّل في الشرخ الكبير الذي حدث في الجدار المجتمعيّ الأمريكيّ، ولم تكن هجمة الكونجرس سوى تعبير أوّليّ عنه، وربّما كان هذا ما قاد بعض وسائط التواصل الاجتماعيّ مثل تويتر لوقف حساب الرئيس ترامب، لا سِيّما بعد أن خاطب أنصاره بقوله: "الـ 75 مليون أمريكيّ وطنيّ الذين صَوَّتوا لي، أمريكا أوَلاً لنجعل أمريكا عظيمةً مُجدَّدًا، سيكون صوتُهم عظيمًا جدًّا في المستقبل، لن يتمّ التقليل من احترامهم أو معاملتهم بطريقة غير عادلة بأيّ شكل"
* انهيار عدالة الفصل بين السلطات تحت اقدام الكراهية الشخصية :-
غاب الاحترامُ، وها هي العدالة المتمثّلة في الفصل بين السلطات تكاد تغيب من جَرّاء أفعال الكراهية الشخصيّة، ولعلّ خير دليل على ذلك الاتّصال الذي أعلنتْ رئيسة مجلس النّوّاب نانسي بيلوسي مع رئيس هيئة الأركان المشترَكة الجنرال "مارك ميلي"، والذي حَثَّتْه فيه على عدم الاستماع إلى أيّ أوامر رئاسيّة من ترامب بخصوص الحقيبة النوويّة بشكل خاصّ، الأمر الذي مُنطلَقه العداء الشخصيّ وعدم الاحترام لمبدأ فصل السلطات، ولهذا اعتبرتْ وسائل إعلام أمريكيّة الأمر بمثابة انقلاب أمريكيّ داخليّ صغير، لأنّه يُشجِّع بعض القيادات على عِصْيان الرئيس أو حتّى وقف صلاحيّاته، مع أنّه لا يزال الرئيسَ الشرعيّ للبلاد وحتّى 20 يناير القادم.
من ناحية جراء هذا الواقع جعل ترامب ، مؤجِّج لنيران القلاقل، وعبارة "سيسمع صوتهم عظيمًا في المستقبل" الذي قالها ترامب ، يُفهَم منها أنّ مشاغبات ومشاكسات الرجل لن تتوقّف مع خروجه من البيت الأبيض، بل ستستمرّ، ومعها مواقف تابعيه ومؤيّديه.
* محاولات نانسي بيلوسي المستميتة لعزل ترامب في ايام قلائل تؤكد واقع المشهد :-
ومن ناحية ثانية، تجنح بيلوسي وبسرعة هائلة في طريق عزل ترامب، الأمر الذي فشلت فيه من قبلُ ومعها مجلس النوّاب، وغالبًا لن تنجح فيه بسبب مرور الأيّام القليلة التي باتت تُعَدّ على أقلّ من أصابع اليدَيْن، لكنّ مواقفها في كلّ الأحوال تترك جرحًا غائرًا في نفوس الجمهوريّين، وتزخم مشاعر الغضب لدى الديمقراطيّين، وما بينهما تتلاشى ملامح ومعالم الديمقراطيّة الغناء التي طالما تَشَدَّقت بها أمريكا الاستثنائيّة.
* تفاؤل بتثبيت الرئيس المنتخب جوزيف بايدن في 6 يناير 2021 رئيسا للبلاد :-
تفاءَلَ الكثيرون من الأمريكيّين ومن غيرهم حول العالم بالعمليّة الإجرائيّة الناجحة نهارَ الأربعاء، والتي قادت إلى تثبيت الرئيس جوزيف بايدن كرئيس للبلاد، وثَمَّنَ الأمريكيّون ديمقراطيّين وجمهوريّين، بل ومستقلّين، الموقف التقدّميّ لنائب الرئيس مايك بنس، ولزعيم الأغلبيّة الجمهوريّة في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، لثباتهما على الإقرار بحقيقة انتخاب بايدن، رغم ما شاب العملية الانتخابيّة من قلاقل.
غير أنّ التساؤل الحائر في سماء أمريكا: هل يعني ذلك أنّه ما من خوف على الديمقراطيّة الأمريكيّة في الوقت الراهن وفي الأوقات التالية؟
* والاجابة في هذا الصدد طبقا لما يراه كل من الفيلسوفه الامريكيه "سوزان نايمان" حاليا, والسيناتورالامريكي الشهير الراحل " بول فندلي " :
إليك ما تراه الفيلسوفة الأمريكيّة "سوزان نايمان"، مديرة منتدى آينشتاين في ألمانيا وقد جاء في رَدّها على سؤال هل تموت الديمقراطيه في امريكا ؟
كان الجواب كالتالي: "أنا فيلسوفة ولستُ نبيّة، وبالتالي بإمكاني فقط القول إنّ الديمقراطيّة في خطر، والأمل استمَدّه من حركات القاعدة الشعبيّة الأمريكيّة الكثيرة، وفي مقدّمتها حياة السود مهمة، أكبر حركة اجتماعيّة في تاريخ أمريكا، فعلى إثرها يقول اليوم 75 % من الأمريكيّين "العنصريّة المنهجيّة مشكلة كبيرة".
والشاهد أنّه حين تقوم وسائل التواصُل الاجتماعيّ مثل تويتر تحديدًا بتعليق حساب الرئيس الأمريكيّ، وتترك حسابات أخرى للديمقراطيّين لا سيّما حساب نانسي بيلوسي، فإنّ ميزان العدالة هنا يختلّ.
والأكثر إزعاجًا في الدولة التي لا تزال نخبتُها المفكِّرة تؤمن جازمةً بأنّها تمثّل مدينة فوق جبل، تنير للعالم حرّيّة وديمقراطيّة، هو خوفها من حروف بضع كلمات يخطها ترامب عبر تويتر، أمّا الحُجّة بأنّها تُحرّض على العنف فواهِيَةٌ، لا سيّما وأنّ العنفَ مكوِّنٌ أصيل في التركيبة النفسيّة الأمريكيّة التي أبادت 140 مليون هنديّ أحمر هم أصحاب البلاد الأصليّين
حين تَحدَّث السيناتور الأمريكيّ الشهير "بول فندلي" والذي رحل عن عالمنا في أغسطس 2019 عن "أمريكا الدولة التي في خطر"، وذلك قبل أكثر من عقَدْين، كان الرجل وعن حقّ يستشرف مآلات وقادم الأيّام الأمريكيّة
في كل الأحوال، نسأل اللهَ السلامَ لشعب الولايات المتّحدة ولكافّة شعوب العالم .. الكراهية لا تفيد ولا تحمي الانسانية في كل بقاع الارض .. المَوَدَّة والسلام والعدل هما الحلّ