الشيخ الأزهري الأستاذ اللغة العربية الأستاذ "بحر" في مدرسة الخرنفش هو أول من أكتشف موهبة "نجيب الريحاني" المسرحية بسبب براعته في نطق اللغة العربية الفصحي بصوت جهوري منضبط، وأسند إليه أدوار رئيسية في كل الأعمال المسرحية التي كانت تقدمها المدرسة، لكن بوفاة الأب عام 1906م هجر "نجيب الريحاني" وعمره 17 عاماً الدراسة وأكتفى بشهادة البكالوريا ليعمل في البنك الزراعي وكان بنكاً خاصاً أنشأه روفائيل ساويرس عام 1898م لإعالة أسرته مادياً بمرتب 14 جنيهاً في الشهر وهو مبلغ كبير لم يكن يتقاضاه إلا كبار الموظفين في الدولة.
ولأن الأحداث لا تحدث صدفة فقد وجد "نجيب الريحاني" موظفاً بالبنك أسمه "عزيز عيد" يعشق الفن وفن المسرح تحديداً ومن ثم ربطهما الفن بعلاقة زمالة وصداقة قوية، حتى أرتأى "عزيز عيد" أن عمله بالبنك يمنعه من تحقيق طموحه في المسرح فأستقال من البنك عام 1908م وكون مع الممثل المسرحي المعروف في حينه "سليمان حداد" فرقة التمثيل المصري واختارا مسرح "إسكندر فرح" بشارع عبد العزيز ليبدأ فيه "عزيز عيد" بناء طموحه وتحقيق حلمه المسرحي، وبسبب علاقة الصداقة بينه وبين "نجيب الريحاني" أقترح عليه أن يكون عضواً بالفرقة وأسند إليه أدوار ثانوية بمقابل زهيد في مسرحيات "الفودفيل" التي كان يعرضها "عزيز عيد" على مسرحه وهو نوع من المسرحيات تعتمد على مجموعة من الفصول المسرحية المنفصلة وبينهم فاصل غنائي، وبسبب السهر في أداء أدواره تغيب كثيراً عن عمله بالبنك مما أضطر البنك لفصله من العمل نهائياً وهو الأمر الذي أغضب عائلته كثيراً وخاصة السيدة "لطيفة" والدته مما دفعه لترك المنزل ليصبح مشرداً بلا مأوى، فلا عائلة ولا وظيفة ولا مال سوى بضعة قروش يتقاضاها من تأدية أدواره الثانوية في مسرح "عزيز عيد"، لا يمتلك سوى حلم يكاد يتهاوى تحقيقه أمام هذه الصدمة التي ألقت به في الشارع ولا ملجأ له سوى قهوة "الفن" المجاورة لمسرح "إسكندر فرح" بشارع عبد العزيز.
في أواخر عام 1909م التقى "سليم عطالله" في قهوة الفن الذي عرض عليه أن يعمل معه في فرقته بالإسكندرية بمسرحية "شارلمان الأكبر" مقابل مبلغ 4 جنيه في الشهر، وهو مبلغ كبير بالنسبة لحياة التشرد التي يعيشها في القاهرة، ولما كانت بطولة أي عمل مسرحي مقصوراً على صاحب الفرقة المسرحية نفسه فقد تم اسناد الدور الثاني لنجيب الريحاني الذي أتقن دوره جيداً لدرجة أبهرت الجمهور ولكنها أشعلت الغيرة في قلب "سليم عطالله" وخشى على نجوميته من "نجيب الريحاني" فقام بطرده من الفرقة ليعود لملجأه القديم بالقاهرة .. "قهوة الفن" بشارع عبد العزيز.
في عام 1910م لم يجد مفراً من حياة التصعلك سوى قبول وظيفة بشركة السكر بنجع حمادي ليبتعد عن القاهرة التي كادت أن تفتك به في حياة التشرد، ولكن لم تدم الوظيفة سوى سبعة أشهر فقط ليتم طرده بعد شجار دار بينه وبين باشكاتب الشركة ليعود مرة أخرى لحياة التشرد بالقاهرة وقهوة "الفن" التي غيرت مواعيدها واصبحت تغلق أبوابها في الثانية صباحاً مما جعل نجيب الريحاني لا يجد مأوى ييت فيه حتى الصباح سوى أسفل كوبري قصر النيل وليس في جيبه مليماً واحداً!
ومرة أخرى ولأن الأحداث لا تحدث صدفة، قابل "نجيب الريحاني" صديق قديم هو الأستاذ محمود صادق سيف" وهو كاتب قصص كان معروفاً في حينه وأخبره أن أخيه "أحمد الشامي" صاحب فرقة مسرحية جوالة ويريد ترجمة بعض مسرحيات الفودفيل" الفرنسية إلى العربية ليقدمها في محافظات مصر ومدنها جنوباً وشمالاً مقابل 4 جنيه في الشهر، فوافق "نجيب" هروباً من المبيت تحت كوبري قصر النيل، وكانت الرحلات الفنية مع فرقة " أحمد الشامي" التي تجوب مدن وقرى مصر من أقسى مراحل وفترات "نجيب الريحاني" إلى أن توسط له "خاله" في أواخر 1910م لشركة السكر بنجع حمادي فيعتبرها "نجيب" طوق النجاة ويقسم قسماً عظيماً بأن يطلق الفن والمسرح للأبد وان لا يعود لحياة الصعلكة مرة أخرى وأن يجتهد في عمله وهو ما حدث بالفعل حتى أرتفع مرتبه إلى 14 جنيهاً في الشهر، ولكن لأنه مشاغب توالت مشاكساته ومناوشاته مع كبار الموظفين بالشركة الأمر الذي أدى إلى طرده مره أخرى من الشركة عام 1913م ولكن هذه المرة بلا رجعة، فقط رجعة لشارع عبد العزيز وقهوة "الفن"، وتشرده القديم.
وفي القاهرة تعرف "نجيب الريحاني" على مجموعة من هواة التمثيل المنشقين عن بعض الفرق المسرحية التي هزتها الحرب ودفعتها لضائقة مالية من أهمهم "استيفان روستي" والفنان "حسن فائق" والسيدة روزا اليوسف" وحتى عزيز عيد نفسه الذي أرهقت ميزانيته الحرب العالمية الأولى وبمبلغ 10 جنيهات اقترضوه من الخواجة "بريكلي" اليوناني صاحب مقهى متروبول بشارع عماد الدين، قرر هؤلاء المنشقون ومعهم عزيز عيد انشاء فرقة مسرحية أطلقوا عليها أسم "فرقة الكوميدي العربي" واختارت الفرقة مسرح "برنتانيا" وهو سينما كايرو الحالية بوسط القاهرة ليقدموا عليه أول عروضهم المسرحية الكوميدية "خللي بالك من إيميلي" التي نقلها عن الفرنسية الاستاذ أمين صدقي وإخراج عزيز عيد، وبسبب الحرب وحالة الركود الاقتصادي في مصر والعالم صارعت الفرقة الكثير من الصعوبات انتهت بانفصال "نجيب الريحاني" عن الفرقة في شهر مايو 1916م بسبب رفض "عزيز عيد" أن يضع أسم "نجيب الريحاني" على إعلان المسرحية أو " الأفيش".
كلمة السر "استيفان روستي"
وفي يونيو 1916م التقى "نجيب الريحاني" صديقه "استيفان روستي" ولكن الأخير كان في بحبوحة من رغد العيش أذهلت "نجيب" حيث كان يعمل "استيفان روستي" في ملهى "أبيه دي روز" ممثلاً لخيال الظل وحيث وعده بأن يجد له مكانا يعمل به في التمثيل بالكباريه، وبالفعل وجد له موطئ قدم بأربعين قرش في الليلة، واستمر الحال بضعة أشهر حتى قرر صاحب الملهى بسبب ظروف الحرب أن يغلق الملهى، ولأن الحاجة أم الاختراع، ترجاه "نجيب الريحاني" أن يرجئ غلق الملهى اسبوعاً على أن يقدم عرضاً كوميدياً باسم "كشكش بك" من تأليفه وبطولته وإخراجه فإن نجح العرض ظل الملهى مفتوحاً وإن أخفق فليغلق الملهى ومرحباً بحياة التشرد من جديد، لكن المدهش أن العرض لاقى نجاحاً منقطع النظير وكأنه ( شفرة السعد ) لدرجة أن صاحب الملهى قرر أن يطبع تذاكر بقيمة بخمسين مليما بعد أن كانت مشاهدة العروض مجانية، ثم زادت قيمة التذكرة فأصبحت خمسة عشرة قرشاً للدرجة الأولى وعشرة قروش للدرجة الثانية، واصبح كشكش بك حديث مصر كلها، أما نجيب الريحاني فقد اصبح مرتبه ثلاثون جنيهاً في الشهر، وبعد أن كان استفان روستي قديماً هو الذي يتوسط لدى صاحب الملهى لزيادة مرتب نجيب، انقلب الحال بأن اصبح نجيب هو سيد الموقف ليتوسط عند صاحب الملهى لزيادة مرتب كل الذين يعملون معه في عروض "كشكش بك"، ولكن بسبب دس المكائد بين صاحب الملهى وبين نجيب الريحاني قرر نجيب على مضض في نوفمبر 1916م وانتصاراً لكبريائه أن يترك ملهى "أبيه دي روز" وأن يقبل عرض جديد من الخواجة "كنجس" في مسرح جديد بشارع فؤاد ( 26 يوليو حالياً ) مقابل 120 جنيه في الشهر ولم ينتهي عام 1917م إلا وكان أسم نجيب الريحاني قد صار معروفاً في مصر كلها.
وفاة سلامة حجازي كانت إعلاناً لنشأة فرقة الريحاني!
في شهر أكتوبر 1917م توفى الشيخ "سلامة حجازي" وقرر "نجيب الريحاني" أن يغلق المسرح أبوابه ليلة 4 أكتوبر حداداً على وفاة هذا الفنان الكبير، لكن الخواجة "كنجس" مدير الفرقة رفض غلق المسرح وأقترح الوقوف حداداً لمدة دقائق وهو الأمر الذي رفضه "نجيب" وبعد سلسلة من العناد بين الطرفين قرر "الريحاني" ترك الفرقة انتصاراً لمبادئه، وتم اسناد دور البطولة الذي كان يقوم به "الريحاني" للممثل "حسين رياض" ولم يكن معروفاً للجمهور في حينه، مما دفع الفرقة للترنح وكادت أن تفلس وتغلق أبوابها، فذهب الخواجة "كنجس" ليتفاوض مع "الريحاني" في الرجوع مرة أخرى للفرقة وانتهى التفاوض بأن يترك الخواجة "كنجس" إدارة الفرقة لنجيب الريحاني مقابل 30% من قيمة الإيراد اليومي وسط رضا كامل من كل فريق العمل بالفرقة، فوافق الخواجة وانطلقت الفرقة باسمها الذي أطلقه عليها الجمهور، "فرقة الريحاني"، حتى غلب الطمع مؤلفها الأستاذ "أمين صدقي" مطالباً بنسبة 50% من الإيراد بعد النجاح الذي حققته رواية "حمار وحلاوة" وهو أمر وجده نجيب الريحاني مستحيلاً فرحل "أمين صدقي" وغادر الفرقة مما دفع "نجيب الريحاني" للبحث عن مؤلف جديد أكثر براعة وخفة ظل، وفي مارس عام 1918م وجد ضالته في الأستاذ "بديع خيري" واشتركا في أول عمل بتقديم مسرحية " على كيفك" التي نجحت نجاحاً ساحراً ثبت أقدام الفرقة في شارع الفن ونحت ملامحها بحيث اصبحت لا تقلد أحداً وكمدرسة فنية قدمت العديد من نجوم فن الكوميديا في مصر، وحيث صار بديع خيري" صديق الكفاح الأقرب لنجيب الريحاني والأكثر تفانياً في أن يدفع الفرقة بمؤلفاته لأن تتألق في عالم الفن، وكذلك وريثه الذي ورث عنه الفرقة بعد وفاته عام 1949م، وحافظ على بقاء أسمها كما هو باسم مؤسسها التي تعرف به حتى يومنا هذا، "فرقة الريحاني".
رحم الله الجميع