عبير فنانة شابة اختارت طريق الفن النظيف فهي تعشق التمثيل منذ صباها وكانت تقدم مسرحيات كثيرة بمسرح الجامعة وفي مسارح قصور الثقافة.
عبير تتحلى بالجمال وهذا كاف للدخول للشهرة من أوسع أبوابها ولكنها تتحفظ على تقديم أعمال تقدمها كسلعة جسدية استعراضية تثير الغرائز.
لهذا كانت الأدوار تنسحب من تحت قدميها وهي لا تبالي فالفن لديها رسالة عنوانها القيم وخلق مجتمع فاضل موازي.
قابلت عبير الكاتب والسيناريست ممدوح حسين والذي عرض عليها والمخرج سعد الطويل بطولة فيلم عن دولت فهمي فطلبت منهما أن يمهلاها بعض الوقت حتى تعيش أجواء الشخصية وبعدها تتخذ القرار.
لم تكن عبير تعرف عن دولت فهمي شيئا فهي المرة الأولى التي تسمع فيها اسمها.
بدأت عبير تطالع السيناريو حتى أنتهت منه. يبدو أنه من نوع السيناريوهات التي تجسد الشخصيات بمثالية مطلقة وكأنهم ملائكة لا يقترفون الخطايا في حياتهم.
راحت عبير تبحث في المكتبات وتطالع مقالات على شبكة الإنترنت عن هذه الشخصية المثيرة للجدل.
-كان مقدار التضحية كبيرا. هكذا قالت عبير لصديقتها فردوس
كانت فردوس الصديقة المقربة لعبير إلى حد كبير فهي لا تقطع أمرا إلا بمشورتها على الرغم من أن فردوس كانت خارج الوسط الفني غير أن العلاقة التي ربطتهما منذ الطفولة كانت فريدة من نوعها كانت فردوس مرآة صديقتها قلبا وقالبا.
قصت عبير على فردوس الدور الذي عرض عليها لتمثيل شخصية دولت فهمي.
-هل تعلمين شيئا عنها يا فردوس؟
-ليس لدي برهة من وقت تعلمين مشاغل البيت وحينما يكون لديك رجل مثل زوجي يترك كل أعباء المنزل لك وينام ستعلمين أن القراءة رفاهية لا يمتلكها أمثالي.
ضحكت عبير وراحت تقص على صديقتها ما قرأته عن دولت فهمي.
-كانت دولت فهمي ناظرة لمدرسة الهلال الأحمر وهي من أسرة صعيدية بالمنيا. أما عن الملابسات التي حملتها لمصاف التاريخ فهي أجواء ثورة عام 1919 وما تبعها من أحداث. كانت الثورة سلمية في ظاهرها ولكن في الخفاء كان الأمر مختلفا.
-كيف؟
-كانت هناك تنظيمات سرية تتحرك في الخفاء لتحقيق مكاسب ثورية ولإثارة الخوف والفزع لدى المتعاونين مع الإحتلال ومن هذه التنطيمات جمعية اليد السوداء والتي انتمت لها دولت فهمي. لقد بحثت كثيرا عن ظروف انضمامها ولكن دون جدوى فقد كانت هذه التنطيمات شديدة الكتمان وانطوت صفحاتها دون تسجيل كامل لأدوار أصحابها.
- إذن ماذا قدمت دولت فهمي لهذه الجمعية؟
-في عام 1920 حاول أحد أعضاء هذه الجمعية ويدعى عبد القادر محمد شحاتة اغتيال وزير الأشغال محمد شفيق باشا ولاذ بالفرار لكن حكمدار العاصمة توماس رسل قبض عليه بمدرسة للفتيات حاول الاختباء بها. وتعرف عليه الوزير والذي لم يصب بسوء.
حاولت السلطات الإنجليزية تضييق الخناق حول المتهم للاعتراف على شركائه لكن دون طائل.
هنا جاء الحل من التنظيم السري بإرسال دولت فهمي للاعتراف أن شحاته على علاقة غرامية معها وأنه بات معها في الليلة التي تسبق الجريمة.
اندهشت فردوس من هذا الحل الغريب : وهل هذا منطق أن تضحى بسمعتها وشرفها من أجل غاية لا معنى لها.
عبثا حاولت عبير أن تفسر هذا التصرف فربما أرادت بذلك غاية أكبر وهي صرف أنظار الإنجليز عن باقي أعضاء التنظيم وتضييق المسألة في حيز الجرائم الفردية.
-تصرف غير عقلاني لا أجد له مبررا مقنعا. لكن ماذا حدث بعد ذلك يا عبير؟
-النهاية متوقعة يا صديقتي قتلها أهلها بالصعيد ثأرا لشرفهم أما شحاته فخفف الحكم عليه من الإعدام إلى الأشغال الشاقة وحينما أتى سعد زغلول للوزارة عام 1924 أفرج عنه.
-ما رأيك في الشخصية والدور؟ سألت عبير
قالت فردوس :
-لا أعلم يا صديقتي هل هي على صواب أم لا ولكنه التاريخ لا نستطيع أن نستدعي شخوصه مرة أخرى لنحاكمهم ولكنه فرصة لا تضيعيها من يديك.
كانت عبير في حيرة هل تقبل الدور أم لا؟! .. اعتقدت أن الأمر يحتاج منها أن تكمل القصة وإلى أين انتهى حصاد تضحية دولت .
لقد شكل زعيم الأمة سعد زغلول الوزارة وكان سعد يضيق ذرعا بالمعارضة التي حملته على أكتافها لكرسي الوزارة فوصفها بالحمراء جدا في إشارة إلى كونها ثورية يسارية ثم راح يلتف على ذلك بتكريم قادة نقابة العاملين بالنقل مما اعتبره البعض دعوة صريحة للبلشفية وإثارة الحقد الطبقي بالمجتمع. وكانت هناك ملامح لعدم الالتفاف حول وزارته وضح من خلال محاولة اغتياله.
كما شهد حزب الوفد ثمرة الثورة العديد من الانقسامات والتصدعات في صفوفه الأولى وأصبحت تركيبته السياسية معتمدة على الاقطاعيين وأصحاب الاموال.
أما حلم الاستقلال فلم يتحقق فعلام ضحت دولت فهمي إذن ؟ كانت كل هذه الأفكار تدور في عقل عبير وهي تتصفح كتب الثورة.
انتهت المدة التي منحها المخرج والمؤلف لعبير فلابد من الرد بالايجاب أو الرفض.
جاء يوم الجمعة وهو اليوم الذي يمكن لفردوس أن تخرج مع عبير للتسوق معا.
ابتدرت فردوس الحديث بقولها :
-متى تصوير الفيلم؟
-أى فيلم؟
-دولت فهمي
-لقد اعتذرت عنه
ذهلت فردوس لماذا؟
-التضحية في غير محلها عبث ودورنا هو أن نظهر المستقبل للناس بعيون الماضي ولكن ليس كل ماض على صواب حتى وإن اتخذ مسميات كبيرة كالوطنية والتضحية.
د. محمد فتحي عبد العال