خرج من بيته والدنيا أشبه بحبل يلتف حول رقبته، يضغط على صدره هم ثقيل ،نظر في وجوه ركاب الحافلة، كل واحد منهم يعيش في عالمه؛ عيونهم تتحرك كما لو كانت تنظر إلى شيء ما، الرتابة تستبد بهم، يترك غبار الحافلة أثره على وجوه المارين، تبدو في حالة من العبث، علها أشبه بمدبنة خرجت لتوها من تحت أنقاض زلزال مدمر، أو تلك التي وقعت بين حربين.
تنتشر الكلاب في الحارات والأزقة والشوارع الرئيسة تتشمم كل شيء، تصدر نواحا أشبه بالعويل، يشاغب الذباب باعة الصحف فلم تعد القراءة غير سلعة بائرة؛ معظم الركاب موظفون في المصالح الحكومية، ثيابهم تكاد لا تختلف، صمت يخيم على وجوههم، حين تكون نهاية الشهر يتحدثون عن أحلام مؤجلة في عطلة نهاية الأسبوع؛ معظمهم يتعاطون أقراصا حمراء، لحظات وبعدها يبدون جثثا بلاحراك، لوحات الإعلانات تخاطب أناسا لم يرهم من قبل، فتاة تخرج لسانها وتضع يدها على خصرها، تبدو مثيرة؛ يتأوه السائق في حسرة، الحافلة على غير عادتها مصابة بالخرس، هواء الشارع في شهر يونيو يقتحم النوافذ الزجاجية مدخلا لهبا لا يحتمل، تبدو العمارات على الجانبين بقايا جبال في مشهد يضج بالعبث.
محصل التذاكر ينز العرق من وجهه، منديله المحلاوي تهرأ وتناثرث شراشيفه، صارت ياقة ثوبه أشبه بخرقة بالية، اقترب من نهاية الخدمة كما الحافلة التي تتداخل حوائطها، السائق يذهب عقله بعيدا حيث زوجته التي تعبث في عالمه المثقل بعجز يتكتمه.
حاول أن يجد دواء لعلته، تكمن مشكلته في صغر سنها، كان ميتا وحياته أن تأتيه أنثى تحرك ساكنه، افترست المدينة التي بلا قلب شبابه، وحين ضربه الزمن بمعوله لم يعد في جرابه ما يسد حاجتها!
جرب كل العقاقير؛ ما أفلح الأطباء ولا حتى دهن العطار؛ فحين يدب الوهن في الجسد يكون ذلك أمارة الرحيل قبل الأوان.
الآن غير بعيد منه، شاب يغازل فتاة، يداعبها بعينيه؛ تتحين مشاكسته من طرف خفي، يتورد خدها؛ يسرقان لحظة من حافلة مصابة بالخرس، عيناه تقتحم خلوتهما المتوهمة، يصعد بائع أشياء صغيرة، ينادى على بضاعته: أقلام، قطع بسكويت، عطور، حبات لبان، لعب أطفال؛ يمسك بواحدة منها ويلقى بها في الممر؛ كأنها ثعبان يتمطى، تهب امرأة متصابية تدعي الهلع، تصيح بصوت متكسر كله إثارة: انخلع قلبي!
في هذه اللحظة دبت في داخله رغبة ظلت مكتومة؛ أن يغازلها أراد أن يعيد ما مضى من زمنه، مرآة الحافلة أظهرت ما يفعله الركاب، تجاوب مع الفتى حين كان يعابث الفتاة اللاهية، امتعض من لحية الشيخ ذي العمامة، ينعطف بالحافلة يمينا جهة الساحل، يهب نسيم النهر ليخفف شيئا من ثقل الجو، يتطاير شعر الفتاة، يخرج من علبته سيجارة ويشعلها، يحرك المذياع على موجة إذاعة الأغاني تصدح مغنية بكلمات تثير كامن مشاعرهم، يتناسى الركاب محطات النزول، الحافلة تتمايل طربا، يكسر إشارة المرور، منذ سنوات لم يفعل هذا، يتمادى في السير، يشجعه الركاب، يتراقص بائع الأشياء الصغيرة، يحمل حقيبة ممتلئة لم تمس منذ ثلاث، يتجاوب الجميع مع صوت المذياع، يخترقون الميادين، يتنادى رجال المرور: حافلة مصابة بالجنون!
تقترب من ماسبيرو، تلتقط موجاته خبر تلك الحادثة التي لم تعهد المدينة لها مثيلا من قبل، على الشاشة نبأ عاجل: على المارين في شوارع المدينة توخي الحذر؛ حافلة فقد السائق السيطرة عليها!
في لحظات كانت كل الشوارع خاوية، رجال الأمن توزعوا في الميادين، طائرة تجوب سماء المدينة، صور الحافلة تبث تباعا، السائق صار حديث الناس.
لوحات الإعلانات على جانبي الطريق تحاصره، صور مغرية؛ حبوب منشطة تقتل عجزه وتفضحه، حاول أن يبتلع صمته، إنه بشر وله مثل الآخرين عالم مخملي!
وجدها فرصة ليظهر ﻷنثاه أن أحدا يهتم به، أخذ يتمايل طربا، تماهى معه الركاب، صاروا يتحدثون عما يعانون منه، أحدهم يكثر التسبيح ودعاء صرف الأخطار، الفتى الذي كان يعابث الفتاة يتصدر المشهد، يحدث الركاب عن متعة الحياة؛ أن يبحثوا عن الأمل؛ ينهره الشيخ: الموت نهاية الأحياء.
تغمزه المرأة المتصابية بعدما فاتها قطار الزواج، يسكت وقد سرى في جسده خدر لذيذ، تتساقط عمامته الخضراء على مقعدها فتستسلم لعبثه، يخرج عن وقاره في وصلة من موال الصبا، تشجعه المرأة التى اصطادت رجلا!
ينادي على محصل التذاكر أن يطلب من بائع الأشياء الصغيرة أن يوزع قطعا مما معه على الركاب بالمجان، يقترب السائق من ميدان العتبة، يتمادى الجميع في الغناء والرقص، توشك الحافلة أن تكون حديث المدينة، النسوة يحاولن ركوبها، يسابقهم الرجال، وجدها المسئولون وسيلة لتخفيف التذمر، فأفسحوا لها الطريق؛ ففي برامج الرغي المسائية فرصة لينشغل الناس بكل تلك الأخبار، على حين غفلة شد بائع الأشياء الصغيرة مقبض الحافلة التي توقفت؛ المرأة المتصابية أخذت في النواح؛ ضاع عقدي!!