توقفنا فى المقال السابق عند التجارب الدولية للدول التى عملت على الحد من الفقر من خلال تكريس الإهتمام وتقديم المساعدات للفقراء فقط أو من هم دون خط الفقر، ضاربة بالموجودين فى الطبقة الوسطى عرض الحائط قد فشلت.. ولعل التجربة المصرية تعد نموذجا واقعيا لهذه السياسات.
فعادة ما تتبع الحكومات فى الدول المتقدمة السياسات الحمائية التى تتضمن المعنى الواسع للحماية الاجتماعية، وهو المعنى الذى يقدم الدعم الكامل لكل طبقات المجتمع حتى لا تتسع رقعة الفقر، وتصيب السواد الأعظم من سكانها.. ومن ثم تبنى سياساتها فى ضوء هذا المفهوم وعليه تؤسس برامج مواجهة الفقر..
والمواجهة وفق هذا المفهوم لا تعنى الحد من الفقر بقدر ما تعنى زيادة معدل الغنى.. وان معظم مساعداتها مشروطة بالتعليم والرعاية الصحية والمشاركة فى الانتاج.. لتستهدف فى النهاية الوصول بمحدودي الدخل الى المرحلة التى يصبحوا فيها قادرين على الاعتماد على النفس.. ويصبح تراجع معدل مخصصات الدعم النقدي عاما بعد الأخر مؤشرا مهما على نجاح سياسات الحماية الاجتماعية وتعافى الفقراء من أزمة الفقر..
أما الحكومات فى الدول الفقيرة فعادة ما تميل إلى تبنى المفهوم الضيق بل والضيق جدا لمفهوم الحماية الاجتماعية والذى يمكن إختزاله فى المفهوم التقليدي لمصطلح الرعاية الاجتماعية.. لتستهدف فى مجمل برامجها المواطن الضعيف مسلوب الحق.. ولا تتجاوز أنشطتها سوى مساعدات بسيطة جدا لا تشبع أكثر من 30 % من احتياجات الفقراء بالإضافة الى بعض الأنشطة المتعلقة بالحلقة الضعيفة فى النسيج البشرى كالمرأة والطفل والمعاق والُمِسن.. والتى عادة ما تكون أنشطة تثقيفية!
وعموا يبدو أن الاختلاف حول المفهوم بين الأكاديميين والميدانين وصناع القرار تسبب الى حد كبير فى عدم وضع سياسات للحماية الاجتماعية واضحة المعالم.. مما تسبب فى عدم تكامل برامج الحماية الاجتماعية التى تمارس داخل الوزارات المختلفة وربما داخل الوزارة الواحدة.. مما يعد اهدار حقيقيا لجهد الدول ومواردها..
ولعل هذا ما يدعونا إلى مطالبة الحكومات فى المجتمعات الفقيرة بتبنى مفهوما واضحا للحماية الاجتماعية يحاكى المفهوم العالمى المتفق عليه.. وعليه يتم وضع سياسات للحماية الاجتماعية تلتزم كل مؤسسات الدولة بتنفيذها.. من خلال برامج تكاملية تستهدف طبقات المجتمع المختلفة.. كل حسب جادته وكل حسب طاقته!
ومن أهم التجارب التى نجحت فى توضيح معنى الحماية الاجتماعية واستخراج سياسات فعالة للحماية الاجتماعية ؛ تلك التجارب التى نظرت الى الفقير كـ"بهلوان" فى سرك.. فالفقير يتحايل على ظروفه القهرية بشتى أنواع الحِيَل، وكأنه بهلوان يقفز من حَبل إلى أخر مخاطرا بحياته.. ففى جميع الظروف هو معرض لخطر السقوط إلى الأرض!
وتنطلق هذه التجربة من فلسفة –ربما أراها محاكيةٌ للواقع- مفادها: إذا كان البهلوان فى كل مرة يشارك فيها فى "العَرض" يسقط على الأرض ويموت.. فهذا معناه واحد من اثنين او الاثنين معاً.. فإما أن البهلوان لم يحصل على التدريب الكافى للعمل بالسرك.. وإما أن إدارة السرك ليس لديها سياسة جيدة لحماية البهلوان من الموت فى حالة سقوطه.. وربما دل موت البهلوان على اجتماع العاملين معاً!
أما إذا البهلوان نادراً ما يسقط.. فعلى إدارة السرك أن تمتلك سياسة للطوارئ.. ووفقا لهذه النظرية فإن إدارة السرك فى كل الحالات مسؤولة أولا أن حماية البلهلوان من السقوط، وثانيا فى حالة سقوطه هى مسئولة عن حمايته من الموت.. وقياسا على الفقر.. فإن الحكومات مسئولة عن حماية مواطنيها من السقوط فى شراك الفقر وفى حالة سقوطهم هى مسئولة أيضا عن حمايتهم من الموت جوعاً!
وإلا كان على المنظمين أن يضعوا نظاما مستداما لحمايته عند السقوط، أما إذا كانت مرات سقوطه عزيزة أو نادرة.. كان عليهم أن يضعوا نظاما للطوارئ يستهدف حماية البهلوان من الموت عند سقوطه..
ومن ثم فإذا كان النظام الاقتصادي الذى تتبعه الحكومات يعمل على زيادة أعداد الفقراء بشكل مستمر.. فعلى الدول أن تتبنى سياسات "دائمة" للحماية الاجتماعية لمنع تعرض المواطنين للسقوط فى شراك الفقر.. أما إذا كان النظام الاقتصادي يعمل باستمرار على تقليص معدل النمو فى الفقر أو انحسار أعداد الفقراء.. وأن فعلى الدولة فى هذه الحالة ان تتبنى سياسات "للطوارئ" تتلقف ضحايا السياسات الاقتصادية الطموحة.. حتى لا يتحولون إلى فقراء جدد!
وختاما.. يجب أن نشير إلى أن معظم البرامج الموجهة للحد من الفقر فى مصر من بداية الخمسينيات وحتى الأن هى سياسات فى مجملها تتعامل مع الفقر وكأنه قضية "طارئة" وليس مرض مزمن، أو أزمة قومية مستدامة، تتزايد بمعدل شبه ثابت عاماً بعد الأخر.. ومن ثم فنحن بحاجة إلى سياسة واضحة للحماية الاجتماعية ؛ تتعامل مع مشكلة الفقر بوضعيتها المستدامة وليس الطارئة؛ حتى نتمكن من الخلاص أو الحد منه فى فترة زمنية محددة !
ولقد أثرت كتابة هذ المقال فى هذا التوقيت؛ لعله يكون هاديًا للحكومة المصرية الطموحة، أو دليلاً لوزارة التضامن الاجتماعي، فى هذا التوقيت الذى تتولى فيه حقيبتها سيدة نشطة هى الأستاذة "نيفين القباج" والتى تطمح أن تُحدث وزارتها أثراً ايجابياً فعالاً فى حياة الفقراء.. فى مرحلة حرجة من تاريخ مصر.. وظروف سياسية مُحفزة، تكمُن فى إيمان القيادة السياسية للدولة المصرية بالفكر الحِمَائي.. وإرادتها الحقيقية فى الانتقال بالبسطاء إلى وضعية اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية أرحب!