مدحت بشاي يكتب: تراجيديا الدم ودراما التوهان !

مدحت بشاي يكتب: تراجيديا الدم ودراما التوهان !
مدحت بشاي يكتب: تراجيديا الدم ودراما التوهان !

تتخذ الدراما أشكالا مختلفة من زمن إلى أخر، تناسباً مع التطور المعتاد لحركة المجتمع ومع ما ينتج عن هذه التفاعلات الإنسانية و الاجتماعية من فكر وقيم، وليس هذا أمرا غريباً إذا أخذنا فى الاعتبار أن فنون المسرح والدراما تنبع من المجتمع وترتد مرة أخرى لتصب فيه.

والدراما كفن من فنون التعبير ترتبط بقدرة الإنسان منذ بدء الخليقة على التعبيرعن نفسه وعن مكنونات بيئته الطبيعية والاجتماعية وقد اتخذ هذا التعبير دائما شكلين: تعبير خارجى وتعبير داخلي يتفاعلان فى علاقة جدلية فالتعبير الخارجى ما هو إلا شكل تنفيذى للداخلى وهذا التعبير فعل يستفز فيمن يستقبله رد فعل طبقا للقاعدة العلمية التى تؤكد "أن لكل فعل رد فعل مساوى له فى المقدار ومضاد له فى الاتجاه" بل إن المسألة تتجاوز هذا الحد فنرى أن رد الفعل يتحول مرة أخرى الى فعل !!

ولكن يبدو أننا في الفترة الأخيرة بتنا في زمن يحتاج الكثير منا فيه  إلى إجراء جراحات إصلاحية لذواتهم لشفط الأحقاد وإزالة سواد السواد من مياه العيون الزائغة ،  وزرع العقل وتثبيت ماكينات الرشد في الرؤوس الخرفة ، ونفخ غرف القلوب بأطيب نسمات الهواء النقي في الصدور التي ضاقت ، و الدفع بالنوايا الصالحات في النفوس الخربة ، وضبط ألسنة الكلام الجارح الخارجة من أفواه الأذى المحبطة ...

لعل تلك السطور الأخيرة تكون قد اقتربت من معاناة الناس من حالة تراجع القيم الإيجابية والتي انتقلت لعالم الدراما التليفزيونية بعد أن تصور منتجوها أن هناك حتمية لأن تكون الدراما وغيرها من الفنون مرآة تعكس الواقع الاجتماعي وبالذات الجوانب السلبية ، وهو مفهوم ينبغي تجاوزه بعد أن ذهب أهل الإبداع العصري في كل الدنيا بطموحاتهم لتشكيل عوالم جديدة موازية ومتجاوزة لحكاية المرآة المكتفية بنفل أحوالنا بثبات ممل واستفرار مريض في شكل ومضمون الانتاج الفني ألى عالم الدراما ..

لقد عشنا في الفترة الأخيرة  ــ باستثناء عدد قليل من الأعمال الوطنية والكوميدية ــ مايمكن أن نطلق عليها " دراما الدم والانتقام " .. دماء تسفك بغزارة ومبالغة مقيتة مرعبة ، وقد يكون مقبولًا عرضها وفق صياغات حرفية من فبل أسطى " دراماتورجي " ماهر من حيث الشكل والمقبلات الجاذبة للمتلقي ، ولكن غير المقبول والغريب هو مايمكن أن نطلق عليه بروز فكرة " شر الأخيار " للرد والانتقام بارتكاب جرائم خارج حسابات القانون و بعيدًا عن ردع الجهات الأمنية برسائل سلبية بشعة !!

في الحلقة (30) الأخيرة من دراما ( البرنس ) يقف برنس زماننا كالحمل الوديع الطيب بوجه متسامح سعيد بعد أن نجح في إبعاد صورة النجم (نمبر 1 ) وأدوار الشوارعي خالع هدومه ، إلى حد حصوله الرائع على مدى الحلقات الأولى على تعاطف النقاد وتشجيع الجماهير .. يقف البرنس (  حكيم زمانه ) في ختام الحلقات منشدًا " لما تاخد في الدنيا على وشك .. اوعى تاخد الضربة على وشك وتسكت وتعديها .. حتى لو بعد سنين لازم ترد .. والرد لازم يكون أقوى من اللي انت خدته .. انا بقى حقي خدته في ٩ تيام من يوم خروجي من السجن" !!!!

يعلق على المشهد صديق فسبوكي " هذه هي الرسالة التي يوجها النجم لجمهوره بل ولكل مشاهديه !! من خلال شخصية رضوان البرنس الذي استمر عل مدار ٣٠ يوم يكرس لها كل ما يستطيع من الشحن المعنوي والعاطفي .. رسالة تحمل للكل التحريض على أخذ الثأر والانتقام !! وليس هذا فقط ولكن بدرجة اقوى واكثر شراسة !! وأسرع أيضا فهو أخذ حقه في ٩ أيام، استطاع فيها القضاء بنفسه على كل اعداءه !! حيث ساهم في قتل ثلاثة!! اثنين من اخوته وزوجة اخيه، وحبس أحدهم في عقاب ٥ سنوات في سجنه الخاص .. وبالتالي لا حاجة لنا للقانون والقضاء والهيئات التشريعية والجنائية وغيرها من المؤسسات المجتمعية المخول لها القصاص وتحقيق العدل والسِلم المجتمعي. وكل واحد ياخد حقه بمعرفته !!..وهذا ببساطة هو قانون الغاب وثقافة الهمج والغوغاء. وكأن مجتمعنا ينقصه فوضى وعنف وشغب وعشوائية..."

ويذكرنا الضديق بما قاله جبران خليل جبران: "لا تقاوموا الشر بالشر لأن المقاومة تغذي الشر وتزيده قوة ولا ينتقم لنفسه غير الضعيف .. أما الأقوياء بالروح فإنهم يسامحون ولمن تقع عليه الأذية شرف سام بصفحه وسماحه" .....

وفد تكررت فكرة إعمال " شر الأخيار " في مسلسل " خيانة عهد " وتابعنا الخطط الشيطانية التي دبرتها بطلة العمل الخيرة الطيبة الفنانة الكبيرة " يسرا " للانتقام وبدلًا من دعوة العمل الدرامي لتحفيز المظلوم للاكتفاء بطلب رد الحق من قبل الأجهزة الأمنية والقضائية يقدمون نماذج لرد الحقوق بنفس أساليب اغتصابها إلى حد كبير ..

كنا نأمل أن يحمل العمل الدرامى بين طياته قيمة إيجابية يسعى لتعزيزها أو سلبية يسعى لدحضها، وتكمن الخطورة الحقيقية فى بعض الأعمال الدرامية التى تجدها تضرب قى القيم الإيجابية وتُظهر للمشاهد عجزها عن حماية صاحبها فتُعمّم لمنهج فاسد بغيض قد يلقى رواجًا كبيرًا لدى البعض خاصة إن كانوا فى مجتمعات يتعاظم فيها نسب الفساد ويختل فيها ميزان العدالة فيلجأون لوسائل البلطجة لجلب الحقوق المنهوبة فيُعمّم العمل الدرامى بأفكاره الشاذة الملغومة تلك لفرض شريعة الغاب بالمجتمع ونشر الفوضى وعشوائية الخيارات والسلوكيات .. 

 

مدحت بشاي

medhatbe@gmail.com