مقدمة:
(لئلا يظلم القوي الضعيف ولأحقق العدل لليتيم قد سجلت كلماتي الغالية على صرحي لتقرير حكم البلد واتخاذ قرار البلد ومن ثم تحقيق العدل)
كانت هذه كلمات حمورابي سادس ملوك مملكة بابل القديمة وصاحب أقدم الشرائع المكتوبة في التاريخ الإنساني.
لقد كان القانون في نظر حمورابي مرادفا للعدل والإنصاف والعدل أساس الملك وقاعدة راسخة لتحطيم الإثم والشرور.
ولكن ماذا لو غاب العدل ولم يكن الناس على نفس القدر من المساواة أمام القضاء؟
وقتها نتحول من وجه الحضارة المشرق إلى غيابات المدن المنعزلة وتحديدا ولاية ساكسونيا الألمانية في القرن الخامس عشر الميلادي والتي تفردت بقانون خاص فكانت العقوبة تصدر بحق الجميع دون تفرقة نطقا ولكن تنفيذا كان العجب العجاب فإذا صدر الحكم ضد أحد من طبقة الاغنياء كانت العقوبة تنفذ في وضح النهار على ظله!! فالقاتل من الاغنياء تقطع رقبة ظله والمسجون منهم يدخل من باب السجن ويخرج من باب النبلاء!!!
لذا فأي مجتمع يبغى التقدم والازدهار عليه الاختيار بين شريعة حمورابي وبين القانون الساكسوني!!!
ولنا مع الإحتلال الأجنبي لأوطاننا في العهود الماضية محطات ساكسونية تستحق أن تروى للعظة والإعتبار من دروس التاريخ.
حادثة دنشواى :
تتلخص الحادثة التي وقعت في ريف مصر وتحديدا في عام 1906 أن جماعة من الضباط الإنجليز قصدوا قرية دنشواي لصيد الحمام ولأن الحمام يتجمع عند أجران الغلال فقد حذرهم إمام القرية من اشتعال النيران في الأجران وأخذ الحيطة لوجود نساء وأطفال عرضة للإصابة من رصاص بنادقهم لكن عائق اللغة أدى إلى عدم فهم الضباط و استمرارهم في إطلاق النار فأصاب أحدهم زوجة المؤذن ووسقطت من الجرن غارقة في دمائها ...
استبد الغضب بالمؤذن واشتبك مع الضابط الإنجليزي محاولا أخذ بندقيته ومستغيثا بأهل القرية فأسرع الأهالي لنجدته واحتدم الموقف بين الطرفين فلما نما إلى علم عمدة القرية ما حدث وحصار الأهالي للضباط أرسل شيخ الخفر وخفيرين لإنقاذ الضباط من الأهالي ولكن عائق اللغة كان مستحكما فوجه الضباط نيران بنادقهم باتجاه شيخ الغفر وأصابوه ظنا منهم أنه يريد بهم شرا فثار الأهالي ورشقوا الضباط الإنجليز بالطوب ففر أحدهم وهو قائد الكتيبة وطبيبها الكابتن بول وأثناء عدوه في القيظ الشديد سقط عند قرية سرسنا مغشيا عليه وحينما حاول أحد شباب القرية إسعافه بشربة ماء كان جزاءه الطعن بحراب بنادق الإنجليز والذين ظنوا أنه قتله!!
محكمة دنشواي :
مات كابتن بول بضربة شمس بحسب تقرير الطبيب الشرعي ووصلت الأنباء إلى اللورد كرومر المعتمد البريطاني في مصر فاستشاط غضبا وألف محكمة لأهالي دنشواي تكونت من بطرس غالي وزير الحقانية وعضوية أحمد فتحي زغلول رئيس محكمة القاهرة الابتدائية والشقيق الأصغر لسعد زغلول وكان مدعي النيابة هو المحامي القدير ورجل القانون الشهير في ذلك الوقت إبراهيم الهلباوي.
كان الهلباوي مشهود له بالوطنية فهو تلميذ جمال الدين الافغاني لكنه في هذه القضية انحرف عن مسار الوطنية واخلاقيات مهنته في تحقيق العدالة وقرر أن يغلب مصلحته الشخصية و يغازل الإنجليز عبر الوصول بالقرويين المساكين من أهل دنشواي إلى أقصى عقوبة ومحو أي اتهامات تتعلق بالجنود الإنجليز وفي مرافعة بليغة استغرقت ساعات على مدار يومين دافع الهلباوي عن الإنجليز بقوله: "الاحتلال الإنجليزي لمصر حرر المواطن المصري وجعله يترقى ويعرف مبادئ الواجبات الاجتماعية والحقوق المدنية!!".. أما الضباط الإنجليز أصحاب الواقعة والجاني فيها فقال عنهم : "هؤلاء الضباط الإنجليز كانوا يصيدون الحمام في دنشواي ليس طمعاً في لحمٍ أو دجاج، ولو فعل الجيش الإنجليزي ذلك لكنت خجلاً من أن أقف الآن أدافع عنهم!!".. فيما وصف الأهالي المساكين المجني عليهم بقوله : "هؤلاء السفلة وأدنياء النفوس من أهالي دنشواي قابلوا الأخلاق الكريمة للضباط الإنجليز بالعصي والنبابيت، وأساؤوا ظن المحتلين بالمصريين بعد أن مضى على الإنجليز بيننا خمسةٌ وعشرون عاماً، ونحن معهم في إخلاص واستقامة!!".
بذل الهلباوي جهودا كبيرة في تحميل الفلاحين المسؤولية عن حريق الجرن وتبرئة الضباط الإنجليز وأنهم تعمدوا ذلك ليخفوا أدلة سبق الاصرار والترصد تجاه الضباط الإنجليز والدليل أن الفلاحين تمكنوا من اخماد نيران الجرن في ربع ساعة وهي مدة وجيزة تعني أنهم من أشعلوها!!!.
وحتى موت كابتن بول بضربة شمس وهو حادث قدري لم يسلم من سهام اتهامات الهلباوي فحمل الأهالي المسؤولية فلولا محاولتهم الإعتداء عليه لما لجأ إلى الفرار تحت أشعة الشمس اللاهبة!!
حتى شهامة بعض الأهالي في الحادث لم تشفع لهم مع جهود الهلباوي في تزييف الحقائق فأحد الضباط الإنجليز جاء في أقواله أن أحد المتهمين قد ناوله شربة ماء لكن الهلباوي قطع على المتهم فرصة للنجاة عبر تشتيت ذاكرة الضابط الانجليزي بأن ملامح المتهم تتشابه مع ابن عمدة القرية وأن ابن العمدة هو من فعل هذا الفعل النبيل فعاد الضابط عن أقواله في حق المتهم وأقر أن من سقاه هو ابن العمدة!!!
وصل الهلباوي إلى مبتغاه وهو الوصول إلى أقصى درجات العقوبة بحق أبناء جلدته وأصدارت المحكمة أحكاما تنوعت بين الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة وخمسة عشرة سنة والجلد خمسين جلدة. وتبرئة ساحة الجنود الانجليز من القتل وحرق الجرن.
نالت الحادثة وما تبعها من محاكمة ظالمة من نفوس المثقفين في مصر والعالم
فقال الشاعر المصري الكبير حافظ ابراهيم في وصف المحكمة :
لَيتَ شِعري أَتِلكَ مَحكَمَةُ التَف
تيشِ عادَت أَم عَهدُ نيرونَ عادا
كَيفَ يَحلو مِنَ القَوِيِّ التَشَفّي
مِن ضَعيفٍ أَلقى إِلَيهِ القِيادا
وقال في وصف الهلباوي:
أَيُّها المُدَّعي العُمومِيُّ مَهلاً
بَعضَ هَذا فَقَد بَلَغتَ المُرادا
قَد ضَمِنّا لَكَ القَضاءَ بِمِصرٍ
وَضَمِنّا لِنَجلِكَ الإِسعادا
أَنتَ جَلّادُنا فَلا تَنسَ أَنّا
قَد لَبِسنا عَلى يَدَيكَ الحِدادا
كما تعاطف الكاتب الايرلندي الشهير جورج برنارد شو مع الحادثة وأفرد لها فى مقدمة روايته "جزيرة جون بول الأخرى" ست عشرة صفحة، قائلا ( إن الفلاحين المصريين لم يتصرفوا في الحادث غير التصرف الذي كان منتظرًا من جمهرة الفلاحين الإنجليز لو أنهم أُصِيبوا بمثل مصابهم في المال والحرمات، وإن الضباط لم يكونوا في الخدمة يوم وقوع الحادث، بل كانوا لاعبين عابثين أساءوا اللعب وأساءوا المعاملة ).
كرومر والحادثة :
كان جميع من اشترك في هذه المحاكمة الجائرة يلهث نحو الرضا السامي من اللورد كرومر الحاكم الفعلي لمصر و اللورد كرومر هو صاحب كتاب مصر الحديثة وقد ذهب فيه إلى أن الدين الإسلامي هو أهم معوق للحداثة في مصر وكان مأخذ كرومر على الشريعة الإسلامية أنها اتسمت بالقسوة البالغة في معاقبة اللصوص المسلحين الناهبين لقري الفلاحين وأن أحكام المفتي المرتكزة على الشريعة الإسلامية نوع من العقاب المرعب كما في حد الحرابة ومع ذلك لم يستمد كرومر من حضارته الغربية أحكاما أكثر تسامحا مع أهل دنشواي حتى يرينا شكل الحداثة التي يدعو إليها بشكل عملي ... انها قوانين ساكسونيا وإن تجملت بمسميات أخرى تبقى أحادية العدالة لا تعرف سوي الحفاظ على الأقوياء وتأمين حياتهم وتترك الفقراء للظلم و القهر والموت.
لعنة الأقدار تطارد الجلادين :
عزل كرومر عن مصر عام 1907...أما الهلباوي والذي أصبح أول نقيب للمحامين في مصر فقضى ما تبقى من عمره مطاردا بلعنة مساكين دنشواي وقرر التكفير عنها بالدفاع عن القضايا الوطنية ابتداءا من حادث مقتل بطرس غالي وحتى الدفاع عن المتهمين بمقتل السيرلي ستاك واشترك في دستور عام 1923
أما احمد فتحي زغلول فقد خسر تقدير المجتمع وحاول استعادة صورته عبر الترجمة للفكر الأوروبي ووضع مؤلفات قيمة في القانون.
د. محمد فتحي عبد العال