ليس غريبًا أن يسمَ الناس الصعيد بأنه متدين بفطرته.. فهو أول بقعة شهدت فكرة التوحيد في هذا الكون.. ففيه تشكلت الملامح الأولى للإنسانية.. وبزغت شمس الحضارة المصرية القديمة وعلى حوائط أجداده سجل المصريون تاريخهم القديم..
وإليه نفى العثمانيون العرب المشغوفين بدراسة علوم الدين؛ خشية أن يعود العرب للمطالبة بأحقيتهم في الخلافة التي فقدوها بنهاية الدولة العباسية!
كانت جزيرتنا تحمل جزءًا كبيرًا من هذا التراث الإنساني العريق.. المتمثل أولاً في علاقة الإنسان بالنيل، باعتباره أول معبود للمصريين في العصر القديم، وثانياً فى علاقتهم بالتراث العربي والإسلامي المشحون بيقين الوحدانية..
لم يكن الناس فى جزيرتنا ملائكة تمشى على الأرض لكنهم لم يكونوا أبداً شياطين.. فحتى أفعالهم الشيطانية كانوا يُرجِعُونَها للتدين.. فحين يعتدى أحدهم على أرض النهر، ويعرض نفسه وأسرته للهلاك من أجلها؛ وتراه حين تجادله يقول: “المؤمن القوى أحبُ إلى اللهِ من المؤمن الضعيف”..
أو يبرر بقوله تعالى: “وَلَقَدْ كَتَبْنَا في الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الاَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون”. كما أنهم يعتبرون الأخذ بالثأر “قِصَاص”.. فلا عجب أن ترى أحدهم يقتل ثم يتوضأ للصلاة.. أو أنه حين يخطط للثأر يمسك فى يده اليمنى سلاحاً وفى يده اليسرى يمسك “مِسبِحة”!
هكذا كان العم “شبيب” أو شيبة حسب ما تعارف عليه سكان جزيرتنا.. نظراً لأن خصلات الشيب قد دبت فى شعره وهو فى العشرين من عمره.. كان شيبة خبيراً بتشغيل ماكينات الماء الإرتوازي، التي تسحب المياه الجوفية ليسقي بها الفلاحون أراضيهم، بعد أن اتسعت رقعة الأرض الزراعية، وأصبح مجرى النيل ينخفض عن سطح الأرض!
كانت ماكينته الارتوازية من نوع “ألماني” تبلغ قوتها ستة أحصنة، وتعمل بالجاز الأحمر.. علاقةُ عشق من نوع خاص بين شبيب وماكينته الألمانية؛ لدرجة أنها كانت مسرحه ومأواه.. فعادة ما تراه مرتديًا السديري المقلم والسروال الأبيض الطويل، المُدَككُ على الوسط بدكة طويلة جداً، مصنوعة من الصوف الخالص.. وحين كان يُسئلُ عن مهنتهِ يقول بأنه: “سقاءٌ آليُّ” تخصصَ فى إِحياءِ الأرض الموتى!
ورغم عشقه الدفين لماكينته، وإيمانه العميق بمهنته كسقاءٍ للأرض.. إلا أنه كان يعمل سراً فى صناعة الأسلحة. لاسيما صناعة الفرد الروسي ذو الطلقة الواحدة.. والتى كان سعرها زهيداً، وفي متناولِ يدِ الكبار والصغار!
لم يخل بيتاً من “فردةِ شيبة” أقصد قطعة السلاح التى يصنعها شبيب.. ولم ير شيبة حرمةً فى صِناعة تلك الأسلحة. وكان يبرر صناعتها قائلاً: أصنعها لحماية الناس من غدر النهر.. لا أبيعها لأغنياء جزيرتنا.. هي فقط للبسطاء؛ المهدد حقهم بالسلبِ والضياع.. فالبسطاء لا يملكون القوة التى تمكنهم من السطو على حقوق الغير.. هم دائماً يكونون فى وضعية المدافعة!
لم تفلح معه كل النصائح التى وجهها إليه عقلاء القرية، للعزوف عن صناعة الأسلحة.. إذ يبدو أنها كانت “هوايتَهُ المفضلة”.. كنا كأطفال نلتف حوله بجوار ماكينته، تارة لكي نلهو ونلعب تحت طراد المياه. وتارة لنشاهده وهو يتفنن فى صناعة الأسلحة!
يسأل عم شبيب كل واحد فينا عن هواياته وطموحاته فى المستقبل.. فيعبر بعضنا عن رغبته فى الطب.. والبعض الآخر يعبر عن رغبته فى الالتحاق بالكليات العسكرية. إلا ياسر فقد كان يحلم أن يكون مهندساً.. ولهذا فهو كان الأقرب فينا إلى قلب شيبة.. لدرجة أنه كان حين يغيب ياسر عن مجلسنا يرسل أحدنا للسؤال عنه، أو لدعوته، وكان يقول دائماً: إن مستقبل هذا الوطن فى عقل ياسر!
انظروا إلى هذه الماكينة.. كل ما فيها ليس من صناعتنا، حتى السلاح الذي نحمله ليس من صناعتنا.. تُرى هل يمكن أن تكون النجاة لأمةٍ تقتات على أفكار الغير.. تُرى هل تُكسا أمة تلبس من أقمشة الغير.. تُرى هل تعيش أمة تأكل مما يزرعه الغير.. تُرى هل ترتوى أمة تشرب مما يعصره الغرب.. تُرى هل تنتصر أمة تحارب بأسلحة الغير.. هلا عرفتم لماذا راهنت على عقل ياسر؟!
كونوا أقوياء حتى تحجزوا مكانتكم فى قطار المستقبل.. ولن تكونوا أقوياء سوى بقوة الفكر والسلاح.. فالسماء التى تغيب عنها الصقور تتكاثر فيها الخفافيش.. ازرعوا الأمل فى قلوب تملكها المستحيل!
وذات يوم كان شيبة معتكفاً على صناعة قطعة من السلاح. كنا حوله وقتها.. إذ كانت تبهرنا لحظات التجريب.. فقد كان شيبة يعطى كل واحد فينا فرصة فى تجريب السلاح.. لكن فى هذه المرة أصر “شحاتة” على تجريب قطعة السلاح هذه..
إلا أن ياسر رفض وقال بأنها فرصته.. وما إن أمسكَ”شحاتة “بالفرد؛ حتى رأيناه قد تحول إلى شخصٍ آخر، ربما لا نعرفه وربما لا يعرفنا.. إذ انفرد عوده فجأة، واخشوشن صوته، وهبَ واقفاً حتى أشعرنا بأنه يرانا تحت قوة سلاحه كالأقزام!
حينها هبَّ ياسر لينازعه فى الإمساك بقطعة السلاح. وفجأة وليس عن عمد، خرجت منها “طلقة طائشة” أصابت ياسر فى سويداء الفؤاد!
لم يمت ياسر وحده.. بل مات قبله شبيب.. مات الحلم الذى كان ينتظر تحقيقه.. مات الأمل.. إذ أعيتهُ الصدمة، حتى أفقدته القدرة على الكلام والحركة.. ظل على أثرها شهوراً فاقداً للوعي.. لم يفلح معه الطب ولا مدفن الحاج بلاش ولا وصفات الدجالين.. وكان يصرخ دائماً بجملة واحدة “بطني يا نعسة” فتقول زوجته “تطيب يا شبيب”.
وبعد أن فقدت “نعسة” كل الطرق فى شفاء زوجها.. شدت الرحال إلى ضريح الشيخ “أبو الحجاج” بالأقصر. وأمام الضريح فاضت عيناها بالدموع، كزوجة أعجزها مرض زوجها.. وقالت بلهجتها الصعيدية البسيطة “نادر عليا يا سيدى أبو الحجاج لو خَف شبيب.. لأعطيك نُصه”!
يبدو أن طاقات السماء كانت مفتوحة.. ونظر الله إلى قلب “نعسة” فوجده معبأ بالحب والصدق والوفاء؛ فاستجاب لدعوتها.. وعاد شبيب رويداً رويداً إلى الحياة ..وأخبرته بالنذر، وأنها قد نذرت نصفه لأبي الحجاج الأقصري!
ومن ثم فقد وقعت نعسة فى حيص بيص.. إذ كيف لها أن تفي بالنذر الذى قطعته على نفسها.. حتى فاجأها شبيب ذات يوم وقال: بأنه قد أدرك مغزى النذر، وأنه قد ضيع نصف عمره فى صناعة أسلحة سخرها حاملوها للشر، وبها تحول البسطاء إلى وحوش. فتحولت جزيرتنا إلى حلبةٍ من الصراع. تارة على ماء النهر، وتارة أخرى على أكوام الطمي المتخمة على شاطئيهِ.. فقد ضيَّعَ نِصفَ عمره فى صناعة الشر.. وعليه أن يسخر نصف عمره الآخر لزراعة الخير!
يبدو أن شبيب قد أدرك درس السماء جيداً. فتخلى عن “جِلدِهِ” القديم، وهِوايتهِ التي كانت سبباً فى سيل من الدم، ربما لم يتوقف بعد.. لقد تخلى شبيب عن “عقليتهِ” القديمة، وقرر عن طيب خاطره أن يُولدَ من جديد.. فاصطحب زوجته إلى قريته الأولى؛ ليخلع فيها جلباب “السقاء الآلي” ويستعيد مهنته الأولى؛ حمّالاً على ساقية تعمل بالحمير والأبقار.. وليس بالجاز الأحمر!
ورغم الإغراءات التى تعرض لها شبيب للعودة إلى صناعة الأسلحة، إلا أنها قد قُوبِلّت كلها بالرفض. وحين سألناه عن السببِ قال: الشيء الذى تتركه بـ”المنطق” من العبث أن تعود إليه بـ”العاطفة”!
أتدرون بماذا يشعر الإنسان حين يخدعه الوهم.. حين يصحو من غفوته ليجد أنه كان يُلبس الشر ملابس الخير؟.. ما أبشع أن يخدع الإنسان نفسه.. ما أسوأ أن تخدعك بنات أفكارك! فأنا الآن بين وجيعتين.. وجيعة الغدر ووجيعة الندم!
وعاد شبيب إلى ساقيته القديمة.. التى تبعد أميالاً عن شاطئ النهر.. وقرر أن يسخر نفسه لري الأنفس الظمأى.. وأن يخفف على الناس عَناءَ الذهاب إلى النهر ليملأوا جراتهم الظمأى مثلهم.. وحرر الثور من عناءِ الرحلة حول الساقية.. وسلم أكتافه لأحمال الساقية.. وقال أنا: أولى بالثور فى سقاية البشر.
فقد كان شبيب يدور حول الساقية، وكأنه يريد أن يكفر عن ذنب اقترفه. وحين كان يشكك البعض فى صدق نواياه يقول فى نظمٍ شعري بلهجته العامية الدارجة آنذاك “أنا زي التور المربوط.. ولا بتعب ولا اجول دوخان.. وساعات أنسى وابدل دوري.. وأحس إن التور إنسان!”.
كانت اتهامات الناس له بالكذب والمراوغة، تطارده فى كل يوم، وفى كل مكان يذهب إليه.. فقد كانوا دائماً يشككون في نواياه، لا سيما الذين كانوا ينتفعون من مهنته القديمة فى صناعة الأسلحة.. غير أنه كان يعامل الناس وكأنه هاربٌ من نصفِ عمره الأول!
وحين كانوا لا يصدقونه ويتهمونه بالكذب، يرد بعاميته البسيطة الصادقة: “أكدب.. واكدب على مين.. دجريمتي إني ما بكدبش.. ولا عمرى غشيت إنسان.. وصراحتي على كل لسان.. وبوزع ضِحكاتي صدقات.. والريع الجَاي م السجرات!”.
تغير شبيب فى كل شيء، حتى فى مفرداته اللغوية البسيطة.. لكن إيمانه بالقوة لم يتغير.. فكان يقول: إن لم يحكم الجزيرة أبناؤها فسوف تبعث الطبيعة لها من يحكمها.. فحين تغيب الأسود عن الغابة.. تحكمها الجرذان!
لم يكن يعرف شبيب سنه.. وكان حين يُسئل عنه يقول “حين أموت سوف تعرفون كم عمرى.. وحين نسأله: متى تموت يا شبيب؟.. يقول: سأموت حين أتم نصف عمري الآخر!
كَبُر شبيب.. حتى تروس ساقيته قد كبرت معه.. سبقته نعسة إلى عالمه الآخر، تركته يفي وحده بالنذر.. لكن عزيمته كانت دائماً تسبق قوته فى تشغيل الساقية.. فكان دائماً فى حرب شرسة.. يقودها ضده الزمنُ تارة؛ فيهدد صحته بالاعتلال والعجز.. وتارة يقودها البشر الذين وضعوه فى خانة الشر، ولا يريدون أن يخرجوه منها أبداً!
فتراجعت تروس الساقية، وهزم الزمن صحته؛ فتراجعت أيضاً.. انتصر شبيب على إغراءات البشر ودسائسهم؛ لكنه لم يستطع مقاومة الزمن.. وحين أحس شبيب بالهزيمة، وأن نصف عمره الآخر قد أوشك أن ينفرط.. فقرر أن يتبرع بساقيته لبناء مسجد فى جزيرته.. لعله يقاوم بتعاليمه الشر الكامن فى نفوس البشر..
بنى شبيب “المسجد” وعيّن نفسه خادماً له، حتى نهاية نصف عمره الآخر. من “سَقاءٍ آلي” احترف فنون تشغيل الآلات الحديثة، إلى سقاء عادي يملأ “جِرار” الفلاحين، ويسقى زروعهم بيده.. ثم إلى خادم مسجد، يخدم المصلين فى صمت..
فقد كان شبيب فى نهاية عمره دائم النظر إلى السماء.. يتمتم بكلمات ربما لا نفهما، فيقول “يا نسيم الريح قُولي للرشا.. لم يزدني الوِردُ إلا عطشا.. لي حبيب ، حبه ملأ الحشا.. إن يشا يمشى على خدي مشى.. روحه روحي وروحي روحه.. إن يشا شئت وإن شئت يشا!”.