الحياء كلمة لم ترد في ذهن حامد النجار أبدا ، ليس لها معني في قاموس سلوكياته ، لا يتورع عن التجرد من ملابسه والوقوف عاريا ، أمام رفقاء الهلس من الرجال والنساء في سهراته الماجنة ، عادة تأصلت فيه منذ الصغر ، يقذف بملابسه ويقف عاريا في صالة المنزل قبل أن يدخل لأخذ حمامه . نشأ في أسرة لم تهتم للاحترام والشرف قدر اهتمامها بالثراء ، شاءت الظروف كما شاءت لكثيرين من أمثاله أن يعتلى لمنصب دفع ليده سلطة التحكم في الرقاب ، في فترة عمي الزمان فيها وسار الجميع خلف شعارات الزيف والوهم ، رجال أمسكوا بزمام بلد لم يكن استعاد وعيه بعد ، فوقع في براثن أشد ضلالة من سابقيهم ، رجال المزاج والكيف والنساء والمصالح الشخصية أولا ، ثم مصلحة البلد هذا إذا كان لها وجود . المثل الأعلى هو حامد النجار وليل الدخان الأزرق والفراش العامر بالنساء عن طواعية أو مجبرات . المهمات خارج البلاد تحولت لليال مع العاهرات والداعرات ونساء الليل . في هذه الليلة كانت المهمة في باريس ، داخل شقة تولى الجوكر ترتيبها مسبقا ، نساء على مستوى نساء حي بيجال وزمرة من رجال الفساد ، إلا واحد لم يكن له في هذا الطريق أي خطوات ، اجبره حامد النجار على اشتراكه في سهراتهم الماجنة مسوقا تحت تهديد مستتر ، انزوى بعيدا عنهم وانشغل في مشاهدة برنامج تلفزيوني ، ثار عندما اقتربت منه امرأة شبه عارية لتجلس فوق ركبتيه ، انتفض واقفا واتجه للباب ليفر قبل أن تحاول امرأة أخرى اغتصابه . نظرة من حامد النجار أعادته للداخل ، ليصبح تسلية الليلة ومحطاً للدعابات السخيفة الفاضحة ، ثورة الكرامة اشعلت داخله ، نهض واتجه نحو الباب للمرة الثانية ، يلقى دون وعي بتهديدات يعلم تمام العلم أنه لن يجرؤ على تنفيذها لكنها أفسدت مزاج حامد النجار ، نهض والشيطان يتقدمه ، بصق في وجه الرجل قائلا بأنه يراهن على أن أمه عاهرة ، فقد الرجل صوابه وهو يسمع إسم أمه الطاهر يقترن بالعهر ، امتدت يده بصفعة فوق وجه حامد النجار . عاد الرجل المحترم لبلده داخل نعش ، تلوثه إشاعات كاذبة ، بأنه قتل نفسه بجرعة زائدة من المخدرات . لم تصدق زوجته التي تعلم حقيقة رجلها ، أصرت على أن تبرىء ساحة زوجها . لم تكد تخطو خطوة واحدة حتى استيقظت ذات صباح ، لتجد جسدها عاريا بجانب حامد النجار وفوق شفتيه ابتسامة حية رقطاء ، كاد الذهول يذهب بالنصف الباقي من عقلها بعد اغتيال زوجها ، نادى على الجوكر قائلا .. لا تنسى أن تعطى للسيدة الفاضلة نسخة من الصور الجميلة وهي ترقد بين ذراعي ، النساء مغرمات بالاحتفاظ بذكريات ليالي الغرام ، نكست الزوجة رأسها وصمت لسانها من أجل أطفالها . تمنت لو كانت اكتفت من البداية بالترحم على زوجها ، لم تكن تعلم أن قوى الشر تسود في وقت من الأوقات ، وعلى الضحايا الأبرياء الانتظار حتى يتحقق عدل الآخرة .
***********
عاد جاد بك الكومي من رحلته مع ماضي الذكريات، إصبعه لا يزال في رحلة الذهاب والعودة فوق الشارب المستقيم التماسا لبعض الإحساس برجولة ضاعت تحت أقدام زوجته فجر . ذكريات مخجلة وضعته في مكانة لا يقبلها أحط الرجال كرامة وشرفا . قطع عليه ذكرياته صوت ضابط الشرطة الذي يرافقه اثنان من المخبرين يسأله عن ابنه علي ، حاول معرفة السبب ، أصر الضابط أن يصطحبه دون إبداء أي أسباب ، لم يجدي رجاؤه لكي ينتظروا حتى قدوم أخيه الضابط خالد . آخر شيء يتوقعه أن يكون ابنه ضالعاً في جريمة ، علم بها خالد حينما ذهب على عجل خلف أخيه عندما أتته مهاتفة من أمه بنبأ القبض عليه . لم يحذف خالد شيئا من الحقيقة المفجعة حينما سردها على أبيه ، هاجمت الشرطة الشقة الكائنة في إحدى العمارات ، بناء على بلاغ تقدم به أحد ساكنيها ، بعد أن تردى إلى أذنه صوت استغاثة مكتومة ، تكرر أكثر من مرة ممزقا سكون الليل . خاصة أن هذه الشقة دأب بعض الشباب على السهر بها وإقلاق راحة الجيران بصخبهم . عثروا في إحدى حجرات النوم على فتاة لا تتعدى الخامسة عشر شبه عارية ، يديها مقيدتين ، تتردد بين الحياة والموت . لم يستطع أحد من الشباب الذين ضبطوا داخل الشقة ، أن يدلي بأي شيء بعد أن أفقدتهم المخدرات القدرة على النطق السليم . في اليوم التالي قدموا اعترافا كاملا ، اعتادوا الحضور إلى هذا الوكر الذي استأجروه خصيصا لمجونهم ، يصاحبهم "علي" جاد الكومي الرأس المدبر لشلة الفساد ، لم يكن موجوداً بينهم بالرغم من أنه كان يصاحبهم طوال الليلة . الفتاة المسكينة مصيبتها فادحة ، الأخت الوحيدة لأحد أفراد الشلة الفاسدة ،كان قد اختفى منذ يومين ، تعيش هي وأخوها منذ فترة طويلة مع جديهما ، تركهما الأبوان في رحلة لجمع المال والثراء . سافرا للعمل في إحدى الدول وتركا أمر تربيتهما للجدين العجوزين . إنحرف الولد ونشأت الفتاة كمثال يحتذى به ، حاولت أن تجتذب أخاها لكنها فشلت . ذات يوم تغيب عن العودة للمنزل ، بحث عنه الجد في كل مكان محتمل لوجوده دون جدوى . تذكرت أنه يصادق "علي" جاد الكومي الذي رآها مرة وحاول مغازلتها بالرغم من صداقته لأخيها ، تشككت ، بحثت وعثرت على رقم هاتفه ، تحدثت معه ، أصر على مقابلتها ليفيدها بأخبار عن أخيه . إطمئن عندما أخبرته بجهل جديها بأمر هذه المقابلة ، هددته بإبلاغ شكوكها للشرطة في أن له يد في اختفائه . بكذبة مسبوكة أوهمها أن أخيها يرقد طرف أحد أصدقائهم ، هزمته جرعة زائدة من المخدرات وكادت أن تقضي عليه ، احضروا له طبيب وخلال يومين سيتماثل للشفاء . كذبته فاقسم لها بأنه لم ينطق سوى بالصدق وعليها أن تصطحبه لتتحقق من صدقه . سارت خلفه كأعمى تنتظره بئر في نهاية طريق يجهله . دلفت من باب الشقة ملهوفة لتطمئن على أخيها ، انقض عليها الذئب وسلبها شرفها ، تركها مقيدة في غرفة النوم مستدعيا باقي شلة الفساد ليتناوبوا الاعتداء عليها ، تنطلق صرخاتها كلما وعت لنفسها ، أثارت الشك عند الجار الذي أبلغ الشرطة . عندما هاجمت الشرطة الشقة كان "علي" جاد الكومي لا يزال يملك بعض الوعي ، مكنه من الاختباء أسفل الفراش ولم يفطن به أحد حتى أصدقائه . في اليوم التالي اعترفوا على شريكهم . المفاجأة المذهلة كانت في بقية الاعتراف ، لم تكن قضية تعاطى مخدرات واعتداء على الفتاة فقط ، غابت رقابة الأباء فتحول الأبناء إلى مجرمين ووحوش ، ألقوا بصديقهم أخو الفتاة المسكينة في النيل بعد أن كلفه تعاطي المخدرات حياته ، لفظ أنفاسه بين أيديهم على أثر جرعة زائدة ، خشوا المواجهة فقرروا التخلص من الجثة . خشي " علي" الكومي افتضاح أمرهم بعد أن هددته أخته ، اقتادها لمصيرها الأسود الذي كاد أن يكلفها حياتها أيضا . اعترفوا بأعصاب مات حيائها ، بأنهم كانوا سيتناوبون الاعتداء عليها حتى تلفظ أنفاسها ، ثم يرسلوها لمياه النيل لتلحق بأخيها .
صاح خالد الابن الأكبر في وجه أبيه بعصبية ، عندما اتهمه بالتقصير في الوقوف بجانب أخيه في محنته ، قال لأبيه أنه السبب فيما وصل إليه "علي" . لم يستطع أن يكتم ضحكة نائحة وهو يقول .. لقد أصبحت أنا أخشى أن يلاحقني الأذى بسببه ، ليس من المعقول أن يكون أخو الضابط مجرماً ، أرح نفسك يا أبي ليس في مقدور أي إنسان أن ينقذ "على" من سنوات طويلة خلف القضبان إن لم يصل الأمر لحبل المشنقة .
***********
قالت ناديه وهى تجفف دموعها :
_ المصيبة أكبر من استطاعتي تحملها ، أخي مجرم وينتظر حكما قد يودي بمستقبله أو حياته
وقال سليم وهو يتمزق ألما :
_ لو كان بيدي أن أفعل أي شيء لفعلته .. دموعك تكاد تقتلني .
قالت ناديه والدموع لم تنته:
_ آسفة يا سليم فما ذنبك حتى أشركك في همومي .. لم ترتح نفسي لسواك لأفضفض عن كربي .
_ لا تقولي هذا يا حبيبتي .. لو بيدي لتحملت تهمة أخيك حتى تعود ابتسامة الورود لشفتيك.
_ من كان مثلك يا سليم ، التهمة الوحيدة التي يمكن أن توجه إليه هي الطيبة ونقاء القلب ، أما أخي فأنا أعلم بانحرافه منذ فترة ، حاولت انتشاله ولكنه كان مصراً على الغرق .. تشاجرت مع كل من بالمنزل اليوم واتهمتهم بأنهم هم المسئولون عن هذه الجريمة وليس هو .
أمسك سليم بيدها وقبلها ، تركت يدها بين يديه تستشعر الأمان في لمسته الحانية ، نظرت إلى عينيه وفوق شفتيها شبه ابتسامة سيطر عليها الحزن وقالت :
_ هل لا يزال الحب يطارد قلبك ، بعد أن أضاف أخي "علي" فضيحة جديدة لأسرتي .
_ فضائح العالم كله غير قادرة على فك اشتباك قلبينا ، لا يهمني في الوجود أحد سواك ، ولو سمحت لي الآن بأن أحضر المأذون إلى هنا لقفزت إليه .
قالت ناديه بصوت يشوبه الأسى :
_ لو بيدي لقفزت معك إليه ، ثم نرحل إلى مكان لا يعرف أحد الطريق إليه ، حتى نبتعد عن كل ما يمكن أن ينغص علينا حبنا .
_ ثقي يا حبيبتي أن الشمس خلف الغيمة .. ستشرق علينا بضوئها الرائع وتكسب حياتنا معا نورا ودفئا .. قال سليم وهو يقرب يدها من أنفه يستنشق أريج عطرها . سحبت ناديه يدها لتلمس بها وجهه لمسة حنان انفرجت لها أساريره وقالت وبعض الأمل يتردد على محياها الرطب :
_ ألهتني مصيبة أخي أن أخبرك بخبر يفرحك .. لقد وقعت عقدا لبطولة فيلم ، المنتج قال لي بأنني لو وفقت سيوقع معي عقد احتكار .. خطوة كنت انتظرها بفارغ صبر لكي أخرج من دائرة ممثلة الإعلانات .
لم تبد على وجه سليم أي فرحة ، اكتست ملامحه بموجة من الخوف وقال بصوت مهتز :
_ لست أعلم إن كنت أُسر لهذا الخبر كما تتوقعين أم أحزن ويستولي على قلبي الجزع .. أين سأكون أنا من نجمة لها جمهورها .. منذ أن رأيتك وأنت بالنسبة لي أبعد من النجوم وحتى هذه اللحظة ، أحياناً كثيرة أظن أنني واهم ، وأن لقائي بك ضرباً من الخيال ، وبأنني لا زلت جالسا أمام الدكان انتظر أن أُملي نظري بمجرد نظرة منك .. فما بالك والشهرة تحيط بك كهالة حول القمر .. قد يدور القمر في فلكه الجديد ، ولا ينوبني منه سوى أشعة فضية قادمة عبر آلاف الأميال كأي واحد فوق الأرض .
قالت ناديه ودموعها الحمراء تبلل المنضدة :
_ إذا كان هذا هو مقدار إيمانك بحبي فاكفر به ، مزق كل كتب الأديان ، ألحد وقل أن السماء خاوية لا يوجد بها سوى الوهم ، إركع للأصنام وقدم قرابينك للأحجار ، قل ضاع الأمان من المساجد والكنائس ولن أجده سوى في الحانات ، أصرخ مع عطوة الجزار وقل ضع "القدرة على فمها تطلع البنت لأمها" . ماذا تنتظر إذهب إلى الشارع الضيق واجلس أمام دكانك مع الآخرين ، سأحضر خصيصا لأمر من أمامك لتعري عيناك جسدي كما يفعلون ..
لم يبال سليم بمن حوله ، نهض ليجثو أمامها ويدفن رأسه في ركبتيها ، صوته الخارج من القبر ينوح على نفسه ويصل بالكاد لأذنيها :
_ أرجوك .. سامحيني ياحبيبتى .. اغفري لي قساوة قلبي وغشاوة عيني .. لو كنت أعلم أن كلماتي ستجرح أجمل زهرة في الوجود لمزقت قلبي حتى لا تنطق بها شفتي .. التعاسة غير كافية لأعبر عما بداخلي الآن .. إن كنت غير قادرة على العفو عني ، أركليني واذهبي لحالك ، سأحضن تراب الأرض ،أتوسل أن يأخذني إليه فمنه خلقت وإليه سأعود .
أحست نادية بدموعه تكوى ركبتيها ، دموع صادقة وحارة، شعرت بحنان دافق نحوه .. ربتت على رأسه بأصابعها الرقيقة ، رفعت وجهه إليها ، لتدخل الطمأنينة إلى قلبه بابتسامة تطمئن قلب الخوف ذاته وهي تقول ضاحكة:
_ لولا مشكلة أخي "علي" لقتلت التقاليد ، وذهبت معك الآن لأخطبك من أبيك ليرتاح قلبك ، ولا تفكر في بهذه الطريقة مرة أخرى .
قال سليم تدعمه عيناه النادمتان :
_ ماذا أفعل لأكفر عن شك مقيت اغتصب لساني ، وجعله ينطق بكلمات لن أسامح نفسي عليها .
_ لا تقل أو تفعل أي شيء ، وهيا بنا لألحق بميعاد التصوير ، تذكر دائما بأنك إذا رأيت يوما الشمس تشرق من الغرب ، تأكد وقتها من أنني سأفرط في حبك.
نهض الاثنان ، تشابكت الأيدي ، سارا في صمت اللسان وحديث القلب إلي أن وصلا حيث تقف سيارتها ، قالت:
_هيا معي حتى أوصلك للشارع الضيق .
نظر إليها بدهشة ممزوجة بالفرحة وقال :
_ ألا تخشين ألسنة عطوه الجزار ورفقائه .
قالت ضاحكة وهي تدفعه لداخل لسيارة :
_ بالعكس سأشعر بالفرحة وأنا أشاهد نظرة الحسد في عيونهم للشاطر حسن ، الذي فاز بست الحسن والجمال .
وإلى اللقاء مع الحلقة القادمة ؛
إدوارد فيلبس جرجس
**********************