ظل أستاذنا العقاد _ طيب الله ثراه _ مُدافعًا عن التجديد في الشعر العربي، ينظر في القصيدة العربية نظرةً كليةً شاملةً، ويرى أن جمالها يكمن في ترابطها ووحدتها الفنية. ونعنى بالوحدة الفنية: وحدة مكوناتها: الشعور، والموضوع، وترابط الأفكار. وبرغم ذلك وغيره يُتَّهَم العقاد بأنه جامد على مذهب القدماء!
لكن التاريخ ينفي ذلك تمامًا؛ فمنذ عام ١٩٠٩ عندما نشر حافظ إبراهيم قصيدته التي يقول في مطلعها:
لقد نَصَلَ الدُّجَىٰ فمتىٰ تنامُ
أهَمٌّ زاد نومَكَ أم هُيامُ؟!
فكتب العقاد على صفحات " الدستور" ما خلاصته أن حافظًا أخذ قطعةً من الحرير، وقطعةً من المخمَّل، وقطعةً من الكتان، وكلٌّ منها صالح لصنع كساء فاخر من نسجه ولونه؛ ولكنها إذا جُمِعت في كساء واحد فتلك هي "مَرقعة الدراويش "
وفي سنة ١٩٢١ كان كتاب الديوان الذي جمع أراء الرجل النقدية ورأيه في الشعر وفي بناء القصيدة، ولعل نقده قصيدةَ شوقي في رثاء مصطفى كامل والتي مطلعها:
المشرقانِ عليك ينتحبانِ
قاصيهما في مأتمٍ والداني
أصدق مثالٍ على ما نذهب إليه، تلك القصيدة التي وصفها بكومة الرمل المَهيل لتفككها، وقد أعاد ترتيب أبياتها وغيَّر وبدَّل ليؤكد فقدانها وحدتها العضوية، والحق أن ترتيب شوقي لها أقرب للمنطق كما ذكرنا ذلك في مقالنا (بين العقاد وشوقي) كل ذلك كان تأكيدًا لوعي العقاد أهمية الوحدة في القصيدة. بل إن ما ذكره في الديوان لهو أصدق برهان على ذلك، فهو يقول: (إن القصيدة الشعرية كالجسم الحي يقوم كل قسم منها مقام جهاز من أجهزته، ولا يُغْني عنه غيره في موضعه إلا كما تُغْني الأذن عن العين أو القدم عن الكف أو القلب عن المعدة، أو هي كالبيت المُقسَّم لكل حجرة منه مكانها وفائدتها وهندستها)
هذا الكلام لا يحتاج لتفسير وهو - في رأينا - أصدق تعبير عن مفهوم الوحدة في القصيدة.
ثم يجئ عام ١٩٣٠ ويؤلف العقاد كتابًا عن الشاعر العباسي ابن الرومي موضحًا الأسباب التي دعته للكتابة عن هذا الشاعر تحديدًا، فقد ذكر أن: " أولها أنه أقرب الشعراء الأقدمين إلي المذهب الذي نختاره، وأن عصره أول العصور التي فطنت لتجديد الشعر على هذا الأسلوب" ويعني بالأسلوب أن ابن الرومي هو من حفلت قصائده بتلك الوحدة الفنية، ومهما كانت الأسباب التي دفعت الرجل إلي التأليف عن ذلك الشاعر فإن كتابه عن ابن الرومي يعد من أفضل الكتب وأوفاها التي كُتِبت عن الشاعر في عصرنا الحديث، أضف إلي ذلك أسبابًا أخرى نفسية، ونقاط تشابه بين الرجلين وبينهما ألف عام أو يزيد، وستناولها مفصلة في بحث تالٍ بإذن الله.
وفي سنة ١٩٤٧ كتب العقاد (خلاصة الشعر الحسن) فعَدَّ في أولها أن الشعر قيمة إنسانية لا قيمة لسانية، وقال: " إن القصيدة بنية حية وليست قطعًا متناثرة يجمعها إطار واحد. فليس من الشعر الرفيع شعرٌ تُغَيِّر أوضاع الأبيات فيه ولا تحس منه تغييرًا في قصد الشاعر ومعناه "
هذه الوحدة التي أفاض العقاد في تكريرها وترديدها حتى اتُّهم باللت والعجن بل وبالإفراط في اللت والعجن، يأتي حفنة من الأقزام ويتهمون الرجل بالجمود وتقليد القدماء!
بل إن كتاب الديوان الذي أعيد طبعه بعد أسبوع واحد، دليلٌ قاطع على استعداد النفوس لسماع الجديد بعد أن ملَّت الطنطنة الجوفاء من أنصار المذهب العتيق.
جل ما يمكننا أن نبرر به تلك التهمة التي ألصقها بعض المأجورين بأستاذنا العقاد أنها غَيْرة لغير أمانة الأدب وكرامته، وهي حملة مقصودة على رجل قضى عمره مدافعًا عن منهجه التجديدي في الشعر والأدب والثقافة، وكان – وسيظل - نقطة مضيئة في تاريخ أدبنا العربي الحديث، وسيظل معظم من جاء بعده عالةً وحميلةً على فكره.