بطلتنا اليوم اختارها الزمان لتكون شعلة، تضيء فيه خالدة للأبد عبر العصور. فكانت مضرب المثل بين أهلها ووسط بني جلدتها ،وعلى لسان كل من يقدر مثل تلكن الشخصيات..
فكانوا إذا ما أرادوا أن يصفوا حدة وقوة بصر أحدهم قالوا: أبصر من زرقاء اليمامة.
هكذا ألهمت زرقاء اليمامة كل الشعراء في زمانها، ومن بعدها. فقال عنها المتنبي الذي هو الآخر نالت حيزا من شعره وحازت على اهتمامه:
وأبصر من زرقاء جو لأنني .. إذا نظرت عيناي ساواهما علمي.
لعل الذي يسمع عن هذه النجمة التي أضاءت وأنارت عقول المفكرين والشعراء، وكل من عنده شغف التطلع لحياة الماضي وشخوصها البارزين، يسأل؛ من تكون هذه المرأة التي رزقها الله حب الكثيرين؟..
اختلف العديد حول اسمها الحقيقي فاشتهرت بكنيتها تلك حتى توارى اسمها عبر الشهور والأعوام ليحفظ العرب فقط ما وصل إلينا اليوم عن زرقاء جديس.. ولأنها عظيمة كشخصية فريدة من نوعها، خصص لها «أبا القاسم الزمخشري» ورقات يصفها فيهم في كتابه ﴿المستقصي في أمثال العرب ﴾ قائلا: أن زرقاء اليمامة من بنات لقمان بن عاد، ونسبة لها سميت منطقة ﴿ جو ﴾ في الماضي باسمها ﴿ اليمامة ﴾ وقيل أيضا أن اسمها « عنز » التي تنتمي لقبيلة «جديس». وأما عن جمالها فقد سحرتهم وسلبت عقولهم بعينيها الزرقاوين ووجه كالقمر ليلة بدره..
أما وقد كثر الكتاب عنها ، فقد خصها أيضا بالذكر « ابن عبد ربه » في كتابه ﴿ العقد الفريد ﴾ الذي يحكي فيه لنا؛ أنها كانت من اليمامة بنجد، امرأة بصفة خارقة. كانت تبصر الشعرة البيضاء من اللبن، وبقدرتها أن ترى الراكب على مسافة ثلاثة أيام ، وهذا ما ذهب إليه « سيبويه » في كتابه « الكتاب » مضيفا؛ أن زرقاء اليمامة أبصرت ذات يوم سربا من الحمام يشرب الماء على بعد أمتار، وبهبة من الله قدّرت عدده بدقة مما أثار هذا فضول قبيلتها لامتحانها عدة مرات، حتى استخلصوا إلى أمر جامع يستخدمونها فيه كجهاز مخابرات متكامل في امرأة واحدة. قادرة على امدادهم بالمعلومات اللازمة إذا ما احتاجوها عن تحرك القبائل المعادية لهم في وقت قصير ، مما يكفل لهم الاستعداد وافتكاك النصر منهم. فيالها من هبة عظيمة تلك التي خص الله بها قوم جديس.
وبذا أصبحت زرقاء اليمامة العقبة في طريق كل من تسول له نفسه المساس بقومها، أو تسول له اجتياز حدود بني نجد.. توالت الهزائم على القبائل المعادية التي زاد حقدها، وأضرم نيران الغضب في أنفسهم. وبهذا ذاع صيت قبيلة جديس التي حظيت بالقوة والهيبة، هذه القبيلة التي كانت من العرب البائدة، الذين كانوا يتبعون قبيلة « طسم ». وكما هو الحال لم يدم الود لأحد ولم تدم صلة جديس بطسم وجاء ذلك اليوم الذي اشتعلت فيه نار عظيمة أنهت عظمةً، ما كان أحد يظن آنذاك أنها ستزول، وزالت جديس..
ذات يوم قتل رجل من قبيلة زرقاء اليمامة رجلا من طسم، فاهتز له قلب زعيمهم نخوة ليثأر ، فجهز حسان بن تبع جيشا لا حد له ، وتقدم نحو جديس ، غير أنهم تذكروا زرقاء اليمامة ففكروا في خطة تنهي حياة زرقاء جديس وقومها ، ففكروا مليا وتدبروا من حولهم عسى يجدون ما يدلهم على النيل منها، فإذا بحيلة تقفز بذهن حسان ، لم تكن بالحيلة الصعبة إنما هي فكرة طريفة، كان سهلا أن تنطلي على بني جديس. لكن، ليس على زرقائهم..
قام ثلة من الشبان الأقوياء فقطعوا الشجر ووضعوه فوق رؤوسهم وساروا به، فلما رأت اليمامة شجرا يتحرك أوجست منه خيفة وارتابت، وقالت لقومها:
إني أرى شجرا قد أقبل إليكم، فخذوا حذركم..
استخف قومها بالأمر وظنوا أن زرقاء اليمامة قد خرفت وذهبت قواها الخارقة، وانفضوا من حولها..
انزوت إلى ركن ، وما لبثت به حتى سمعت أصواتا تهز المكان، كانوا بنوا طسم قد بلغوا أراضي بني جديس وأحاطوا بهم، ونالوا منهم فسبق سيفهم سيوفهم وكتب لهم النصر أخيرا.. حينها فقط عض بنو جديس على أناملهم وشفاههم ندما وحسرة، وأدركوا صدقها..
لعل الكثير فكر بالذي حدث لزرقاء اليمامة بعد أن استخف بها قومها وبقدرتها، فتحولت من سيدة قومها إلى أسيرة لدى قبيلة أخرى..
حينما دخل جيش الأعداء قبيلتها وظفروا بها وأطاحوا برؤوسها الكبار الجبابرة، واستعبدوا أهلها الضعاف واستحييوا نسائهم، أمر زعيمهم حسان بن تبع بقلع عيني اليمامة وصلبها على جذع نخلة، لتجنب خطرها وقد قيل في أحد الروايات، أنهم اقتلعوا عينيها فسالت من عروقها مادة سوداء نظرا لاكتحالها بحجر الإثمد، وأنه ربما كانت هي أوائل نساء العرب التي اكتحلت به والذي شاع بعدها أنه يزيد من حدة وقوة البصر كزرقاء اليمامة..
ومن سحر الأدب إلى محراب العلم نمضي ونطرح سؤالا: هل يمكن لانسان أن يرى على مسافة ثلاثة أيام أي في حدود تتعدى المائتي كيلو متر بتقدير اليوم؟
هو امر مستحيل من الناحية العلمية فطبيعة الأرض في نجد أين عاشت زرقاء اليمامة تحفل بالوديان والهضاب مما يجعل مدى الرؤية محدود حتى ولو فرضا كانت هي تنظر من فوق ربوة مرتفعة. إضافة إلى أن الأرض كروية وليست مسطحة وبالتالي فالأفق لا يكون مرئيا بعد مسافة تقارب خمسة كيلومترات.
فما الطريق إذن لقراءة هذه القصة في ضوء العلم؟
إن ما امتلكته زرقاء اليمامة هو منحة الهية تسمى الحاسة السادسة او «الحدس» ذلك الرادار الطبيعي داخلها الذي يدق ناقوس الخطر لديها، فيمكنها من التنبؤ بعوامل الخطر باستمرار، واستشعار الأحداث قبل وقوعها فتسارع لتحذير قبيلتها فيستعدوا للمواجهة. إذن، الحاسة السادسة هي استشعار خارج الحواس، ونجدها عند المرأة متعاظمة مقارنة بالرجل.
الأستاذة صورية سلماني
د. محمد فتحي عبد العال