صمود «حراس الحقيقة» أمام مدافع الاحتلال.. صحفيو غزة يروون لـ«اليوم السابع» أهوال 80 يوما من العدوان الإسرائيلى على غزة: نخرج للعمل ونتوقع الشهادة فى أى وقت.. ولن نخون دم 100 صحفى راحوا ضحية نقل الحقيقة

** كاميراتنا تنقل الحقيقة وتخفى دموعنا على أهلنا وأحبائنا

**ياسر قديح فقد 8 من أهله فى قصف منزله وعجز عن إخراجهم من تحت الأنقاض 

** محمود بسام ودع 33 من جيرانه فى يوم واحد

 

«ليسوا مجرد أرقام.. بل أهل وجيران وأحباء، تصمد الكاميرا أمام المجازر ولكن خلفها دموعنا تنهمر وقلوبنا يمزقها الوجع، هذا معنى أن تكون صحفيا فى قطاع غزة».. كلمات صادقة يملؤها الألم والحسرة خرجت من صحفيى غزة الذين يقبعون تحت القصف الإسرائيلى لأكثر من 80 يوما ودعوا خلالها نحو 20 ألف شهيد من الأهل والجيران، صحفيون يواجهون الموت بلا خوف أو هلع على أمل أن تصل رسالتهم للعالم، إيمانا منهم بأنهم أصحاب الأرض مدافعين عن قضيتهم.

 

العمل الصحفى فى قطاع غزة المنكوب يختلف عن أى مكان آخر، فهنا البحث عن الأمان رفاهية، تخرج للعمل وأنت تتوقع استشهادك فى أى لحظة، تجرى لتصوير المجازر ثم تفاجئ بأن أهلك تحت الأنقاض، لم يعد للسترة الواقية والخوذة معنى بعد أن أصبح كل من يرتديها هدفا لقوات الاحتلال التى تحاول اغتيال شهود الحقيقة.

 

وقائع صادمة رواها صحفيو غزة لـ«اليوم السابع»، فبينما يتحدثون عن معاناتهم نستمع لصوت القصف يدوى حولهم فى كل مكان، مؤكدين أن صورهم التى تملأ صحف العالم ويرفعها المتظاهرون فى عواصم غربية لنصرة غزة وفلسطين هى التى تمنحهم الأمل للاستمرار فى رسالتهم وتعرية جرائم الاحتلال الذى ظل لعقود طويلة يروى الحكاية من جانبه فقط بكل ما بها من أكاذيب وادعاءات.

 

«ما فى مكان بالوقت الحالى ليس خطرا، كل مكان نحن موجودون فيه خطر جدا، فى كل وقت معرضون للإصابة أو الاستشهاد» بتلك الجملة بدأ المصور الصحفى سامى السلطان حديثه لـ«اليوم السابع»، قائلا: «لا توجد طرق لحماية الصحفى الفلسطينى فى قطاع غزة، والسترة والدرع الواقى لم يعد لها قيمة بل صارا خطرا علينا لأنهم أصبحوا يستهدفونا بشكل مباشر كصحفيين خاصة أن الجنود الإسرائيليين أصبحوا قريبين من أماكن تواجدنا».

 

وأضاف: «موضوع الأمان فى الوقت الحالى ليس له وجود، والحامى رب العالمين نحن نضع حملنا على الله وبنقول «يا رب» غير هذا لم يعد يوجد مكان حماية لا لمواطن ولا صحفى ولا مسعف ولا أى شىء»، لافتا إلى أن عدد الصحفيين اللى استشهدوا حتى أمس تجاوزا الـ100 صحفى، وما زال العدد مرجح للصعود، هذا بخلاف الإصابات واستهداف جميع المكاتب الصحفية خلال القصف.

 

ويؤكد خبراء القانون الدولى، أن الصحفيين بحكم وضعهم كمدنيين يتمتعون بحماية القانون الدولى الإنسانى من الهجمات المباشرة، شريطة ألا يشاركوا مباشرة فى الأعمال العدائية، وتشكل أية مخالفة لهذه القاعدة انتهاكا خطيرا لاتفاقيات جنيف وبروتوكولها الإضافى الأول، ووفقا لموقع اللجنة الدولية للصليب الأحمر فإن التعمد فى توجيه هجوم مباشر ضد شخص مدنى يرقى أيضا إلى جريمة حرب بمقتضى نظام روما الأساسى للمحكمة الجنائية الدولية.

 

تلك القواعد الدولية لا توجد فى قطاع غزة، بل أشار السلطان إلى أن حياتهم بوجه عام أصبحت سلسلة من المعاناة، قائلا: «أنا اليوم أولى مهماتى توفير الأكل والشرب لأهلى وقصة توفير الأكل والشرب صعبة جدا، كل شىء نعانى عليه، فلكى نوفر طحينا أو ماء نحتاج وقتا طويلا، كل شىء أصبح صعبا، نحن لا نجد الأكل أو الشرب والوضع أصبح كارثيا».

 

وقال: «لكن فى ظل تلك المعاناة تبقى رسالتنا نقل الحقيقة ويجب أن نستمر فى ذلك بقوة، ومن خلال التواصل الاجتماعى أصبحنا كصحفيين قادرين على التغيير ووصول الرسالة الحقيقية، واستطعنا تكذيب رواية الاحتلال الإسرائيلى فى أوروبا وأمريكا وكل بلدان العالم، الآن تغير كل شىء بأننا نحن أصحاب الأرض مؤمنين بأننا كصحفيين لنا دور كبير وواجب وطنى علينا».

 

صحفيو غزة قبل أن يكون هذا عملهم فهم مواطنون بالقطاع يعيشون المأساة بكل صورها نزحوا كمن نزح من الشمال مع أهلهم للجنوب، تركوا بيوتهم بحثا عن ملجأ آمن يحتمون به، هذا ما رواه لنا المصور الصحفى ياسر قديح قائلا: «هذه الحرب قاسية كثيرا لنا وما كنا نتوقع كل هذه الأهوال، ونحن بشر تحملنا كثيرا، نزحنا عن بيوتنا ونعيش الآن فى خيام من القماش، ونعمل تحت ظروف قاسية».

 

«قديح» تعرض منزله للقصف وهو بداخله مع أسرته، وراح ضحية القصف ثلاثة من أبناء أخيه، و5 من أهل زوجته، وقال: «كنت أستضيف أهل زوجتى بعد أن نزحوا فى بداية الحرب ليموتوا فى النهاية تحت أنقاض منزلى، شعرت بالعجز وأنا لم أتمكن حتى من إخراج أهلى الشهداء من تحت الأنقاض».

رغم صعوبة الموقف على «قديح» إلا أنه يرى الأكثر صعوبة عندما اضطر إلى ترك منزله المهدم والنزوح جنوبا، وقال: «بعد القصف ضليت عايش على ركام بيتى ولكن بعد تهديد جيش الاحتلال لنا اضطريت للنزوح وترك بيتى وبيت عائلتى الذى عشت عمرى كله فيه».

 

كل تلك الأهوال لم تُثنى «قديح» عن التوقف فى كشف جرائم الاحتلال، قائلا: «مهمتنا إنسانية إعلامية ليرى العالم جرائم الاحتلال، رغم صعوبة الإمكانيات فكل يوم نرى معاناة فى إيجاد إنترنت، فجميعنا أصبحنا نازحين نعيش فى خيام بلا كهرباء ولا شبكات اتصالات، كذلك نعانى من التنقل بين مكان وآخر وهو أمر خطر جدا، فلا توجد مواصلات بسبب غياب الوقود، ولكن كل هذا نتحمله لنصل للعالم».

 

حكاية قديح تتشابه مع كثير من الصحفيين فى القطاع، حيث قال المراسل الصحفى محمد عوض: «أنا أحد النازحين باعتبارى من سكان مدينة غزة دفعتنى الحرب إلى أن أنقل عائلتى إلى رفح فى ظروف إنسانية صعبة للغاية، وهنا المشقة الكبرى بين حماية الأهل والقيام بواجبى كصحفى، يومنا ملىء بالمتاعب والمشقة غير المسبوقة».

 

وتحدث «عوض» عن أقصى اللحظات التى مرت عليه قائلا: «بينما كنت على الهواء المباشرة واستنجد بى أحد الرجال الذى فقدا أبناءه فى القصف الإسرائيلى وكانت المفاجأة بأن هذا الشخص أحد أصدقائى، للأسف تلك المشاهد المأساوية مكررة بشكل يومى ومن الممكن أن أتوه فى تلك المواقف الصعبة خاصة فى ظل الحرب المستمرة».

 

وأضاف نحن نقوم بالتغطية فى ظروف ميدانية صعبة للغاية مليئة بالمخاطر والموت، نتوقع فى أى وقت أن تتحول عملية نقل الخبر لتصبح أنت الخبر، وبالتالى من المتوقع أن تكون ضحية الغارات الإسرائيلية فى أى وقت، وطيلة الصراع الفلسطينى الإسرائيلى لم نشاهد مثل هذه المجازر ولا هذا القصف وهذا التغول والتوغل الكبير من جانب إسرائيل.

 

وأكد أنه رغم استهداف جيش الاحتلال للصحفيين بشكل مباشر إلا أن هذا لم يضعف عزيمتهم، قائلا: «بالعكس هذا يعطينا دافعا بأن نكون فى رسالة سامية للدفاع عن النفس والأرض».

 

وكما انتهكت إسرائيل كل المواثيق الدولية خلال حربها الوحشية ضد القطاع التى بلغت 80 يوما، فهى لم تحترم أيضا القانون الدولى الإنسانى الذى يفرض عليها حماية الصحفيين، وتنص المادة 79 من البروتوكول الإضافى الأول لعام 1977 المتعلق بالنزاعات المسلحة الدولية على أن الصحفيين المدنيين الذين يمارسون مهنتهم فى مناطق النزاع المسلح يتمتعون بجميع الحقوق وأشكال الحماية الممنوحة للمدنيين فى النزاعات المسلحة الدولية.

 

وتشمل هذه الحماية فى مقدمتها «الحماية من الهجمات المباشرة»، والحق فى عدم التعرض للتعذيب أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، وكذلك الحق فى المحاكمة العادلة والحق فى الاحترام الواجب لشخصهم وكرامتهم.

 

«نحن لا نبحث عن الحماية بل نجرى لأماكن الاستهداف لنقل الحقيقة»، هكذا تحدث محمود بسام المصور الصحفى، قائلا: «نحن فى حرب نقوم بتغطية تحت القصف نعمل على مدار الساعة لا نذهب إلى أهلنا إلا زيارات وغير ذلك نبقى متواجدين بجانب المستشفيات تعرضنا لعديد من المواقف الصعبة، طائرات الاحتلال تقصف أماكن عملنا ونجرى مسرعين لتغطية ما يحدث».

 

وأضاف: «القانون الدولى لن يحمينا، فقط الحماية من رب العالمين، نحن نعمل ما تمليه علينا إنسانيتنا، نعرف كل يوم ونحن خارجون للعمل أننا ممكن أن نكون من الشهداء وهذا أمر وارد، يوجد لدينا نقطة المستشفيات نتجمع فيها لممارسة عملنا وهى فى مرمى نيران إسرائيل».

 

وروى لنا «بسام» اللحظات الصعبة التى مرت عليه بفقدان الأصدقاء والجيران، قائلا: «كنت فى تغطية أحد المنازل وكان هناك صديق لى من أحد الشهداء، وبينما كنت جالسا فى المستشفى وسمعت عن قصف فى حى النصر وكنت أعمل على نقل الأحداث وإذا بى أجد صديقا صحفيا آخر استشهد فى القصف، قصف منازلنا وبيوتنا لم يؤثر على عزيمتنا بالعكس نستمد القوة والعزيمة لنقل الأحداث، حتى استشهاد زملائنا لم يؤثر على عمل الصحفيين بالعكس منحنا دفعة معنوية أننا نكمل ونستمر فى رسالتنا ولا نخون دمهم».

 

وأضاف: «الدموع أصبحت سمة ملازمة لعملنا أمام الأهوال التى نراها كل يوم، قبل أن نكون صحفيين نحن بشر وخلال الحرب مرت علينا مواقف صعبة كثيرة أوقفنا التصوير وقمنا بتقديم المساعدة انطلاقا من إنسانيتنا، كان الأهالى يأتون للمستشفيات حافيين القدمين كنا نعطيهم لبسنا وكل ما معنا ونقوم بتهدئتهم ونهون على بعض الناس، لا ننقل الصورة فقط بل نطبطب على المجروحين الذين فقدوا أهلهم، لأنهم أهلنا أيضا».

 

وراح بسام يتذكر طفلة وهى تتعلق به وتقول له «بدى أمى وبدى أهلى»، ومواساته لأم تبكى ابنها الشهيد، ويوم تعرضت منطقته للقصف وهدم 6 منازل، راح ضحيته أكثر من 33 شهيدا فى الحارة التى يسكنها، وتحت الركام تسمع صوت الناس تصرخ وأنت واقف عاجز عن إخراجهم والدفاع المدنى قلة إمكانياته تجعله عاجزا، أيضا هذه الروح كنا نتركها تذهب ونحن عاجزين، وقال: «كنت أعمل دائما على نقل الصورة أولا ثم نغلق الكاميرات ونقوم بالعمل الإنسانى، مررنا بمواقف صعبة خلال التغطية جعلتنا نبكى خلف الكاميرا».

 

وأضاف: «نؤمن أن الرسالة ستصل للجميع، وأنا لدى صور عديدة انتشرت فى برشلونة وألمانيا ودول عربية وغربية كبيرة كانت تعلق بالشوارع فى المظاهرات، أؤمن أن الرسالة ستصل للجميع، نحن فى طريق جهاد وحق، ربما نفقد أهلنا وأنفسنا ولكن هذه الرسالة يجب أن تصل ومعنوياتنا يجب أن تبقى عالية برغم المرض والتعب مستمرون فى إيصال الرسالة».

 

على الرغم من عدم انضمام إسرائيل إلى المحكمة الجنائية الدولية فإن قبول المحكمة عضوية فلسطين فى الأول من إبريل 2015 يجعل لها ولاية جنائية على الأراضى الفلسطينية، وقد أكدت المحكمة فى 5 فبراير 2021 أنها تتمتع بصلاحيات تجيز لها النظر فى الأوضاع بقطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، ولكن صمت العالم ينشر حالة من اليأس فى إمكانية تطبيق القانون الدولى على دولة الاحتلال.

 

صحفيو غزة (1)
 

صحفيو غزة (2)
 

صحفيو غزة (3)
 

صحفيو غزة (4)
 

 

 

 

هذا الخبر منقول من اليوم السابع