معتز بالله عبد الفتاح
ارسل لي باحث أمريكي كان يدرس معي من فترة رسالة مطولة فيها تفسيرات متعددة للآية 5 من سورة التوبة وطلب مني مساعدته في فهمها لأنه وجدها مكتوبة على بعض مواقع مدعي الجهاد.
فبعد أن شرحت له ما أفهمه منها، قلت له إن مشكلة مدعي الجهاد أنهم لا يقرأون إلا الآية 5 من سورة التوبة ولا يقرأون ما يسبقها ولا ما يلحق بها، فضلوا وأضلوا.
تقول الآية الخامسة من سورة التوبة:
فَإِذَا انسَلَخَ (أي انتهت) الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ (حاضروهم) وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ (كل موقع) فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)
ولو قرآنا الآيات السابقة واللاحقة على هذه الآية لوجدنا فيها تفسيرها:
بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ(6)
وكأنها تقول ضمنا: من عاهدنا ولم ينقصنا شيئا (يخوننا) ولم يتعاون مع أعدائنا علينا فسنلتزم بالهدنة معه. وهذا هو مضمون الآيات من الآولى حتى الرابعة. أما الآية الخامسة، فهي مرتبطة بمن خاننا، وعلينا أن نقاتله لأنه قاتلنا أو تآمر على قتلنا. وحتى من بين هؤلاء قد يكون هناك من يستجيرك، فعليك أن تهادنه.
تعالوا نتأمل عدة أمور:
أولا اليوم، أغلب المسلمين ليسوا إرهابيين، ولكن أغلب الإرهابيين مسلمون. مسلمون يقتلون مسلمين وغير مسلمين بأعداد كبيرة في مناطق كثيرة من العالم.
أعلم أن هتلر وموسوليني وستالين وبول بوت وشارون والعصابة الصهيونية ليسوا مسلمين.
ولكن أعلم كذلك أن باسم الإسلام ارتكب كثيرون منا جرائم لا يقبلها الإسلام.
ثانيا: لماذا؟
النص + العقل = التفسير. والتفسير يتأثر بالبيئة الحاضنة والظرف التاريخي وهو مقدمة للفعل.
النص، على الأقل النص القرآني واحد يقرأه شيخ الأزهر ويقرأه أيمن الظواهري، ولكن بيننا من يفسره دون النظر إلى سياقه. ونحن أساتذة في نزع السياقات وتلوين الآيات ولي عنق النصوص.
رابعا: نعم بيننا إرهابيون حين يستدعون الآية التي تقول: "قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صاغرون."
ولكنهم لا يعرفون أنها حكم مطلق قيده في آيه أخرى تقول:
"وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين."
ويذهب هؤلاء إلى أن الآية الأولى التي نزلت في سورة التوبة (وهي من أواخر ما نزل من القرآن الكريم) نسخت الآية الثانية التي نزلت في سورة البقرة، وكأن الله، بزعمهم، أصبح في آخر حياة الرسول، صلى الله عليه وسلم، يحب المعتدين. وحب الاعتداء ظلم، والظلم نقص والله تعالى منزه عن كل نقص.
خامسا: الإسلام ليس مختلفا عن غيره؛ فداخل الدين الواحد وداخل النص المقدّس الواحد يتفاعل العقل البشرى معها على نحو يغلب آية على آية أو سياقاً على سياق. ففى التوراة، هناك نص يدعو اليهود أن «أحبوا جيرانكم كما تحبون أنفسكم» (Leviticus 19:18) ولكن هناك نصاً آخر يدعوهم أن: «اقتلوا كل رجل وكل امرأة، طفل ورضيع، خراف وماشية، جمال وحمير» ممن يعبدون رباً آخر (Sam 15:3).
وفى الإنجيل، يقول السيد المسيح عليه السلام، لحواريه: «أدر خدك الآخر لمن يضربك» (Matthew 5:39)، ولكن هناك نصاً آخر يقول لهم «أنا لم آتِ كى أجلب السلام، بل جئت للسيف» (Matthew 10:34)، ثم يقول لهم «من لم يشترِ سيفاً، فعليه أن يبيع ما يملك ويشترى سيفاً» (Luke 22:36).
وفى القرآن الكريم: «مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا»، وهناك آية أخرى فى سورة «التوبة» تقول: ««فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».
سادسا: مفهوم لكل معتدل فى تديّنه أن لكل آية سياقها، وأن آيات القرآن الكريم التى نزلت لحض المؤمنين على القتال نزلت وهم أقرب إلى ساحة المعركة، بل ربما وهم فيها. وبالتالى لا مناص من الحرب. ومفهوم كذلك لكل معتدل فى تديّنه أن الآيات التى تحضّ المؤمنين على السلام هى الأصل الذى يكون الخروج عليه حين يحدث اعتداء.
النص ثابت لم يتغير منذ قرون طويلة، ولكن ما يتغير هو العقل المتفاعل والبيئة الحاضنة، فنجد الشخص نفسه حينما يسافر من بيئة إلى أخرى، قد يتغير فهمه للنص. ونجد داخل البيئة نفسها شخصين لكل منهما فهمه للنص.
وعلى هذا فإن ناقدى الأديان عليهم دائماً أن يفرّقوا بين الأديان المختلفة، بل وأن يفرقوا بين الفرق والمدارس والحركات المختلفة داخل الدين الواحد، بل أزعم أننا نعيش عصراً يمكن أن يزعم فيه الإنسان أن هناك من أنماط الدين بقدر ما فيه من منتسبين للدين. بل إن الكثيرين ينتسبون إلى الدين انتساب «الهوية والتعريف» وليس انتساب «الإيمان والتصديق».
القساوسة الأوروبيين جمعوا الأموال للحملات الصليبية ضد بلدان المسلمين، فلجأوا للنص الذى يدعم شراء السيف. واتخذوا من حادثة حرق إحدى الكنائس المهمة فى عهد الفاطميين ذريعة لإعلان الحرب المقدسة على المسلمين الذين كانوا يضطهدون المسيحيين فى الشرق.
ولكن حين بدا أن الانتصار التام على المسلمين كان مشكوكاً فيه إلا بتكلفة مبالغ فيه، لجأوا إلى الآيات التى تتحدث عن السلام ومهادنة المسالم وإدارة الخد الأيسر إذا ضُربت على خدك الأيمن.
علينا أن نواجه بشجاعة مرض التطرف الذي أصابنا، ونقطة البداية هي أن لكل آية سياقا وأن معرفة الآية من غير معرفة سياقها يعني إساءة التفسير كمن يعبد نصا ولا يفكر ولا يريد أن يفكر في معناه.
هذا الخبر منقول من اليوم السابع