أجراس الإنذار تدق المرة تلو الأخرى، تحذيراً من مخاطر الفتاوى السلفية التحريضية التي يمرح أصحابها على الفضائيات والمواقع الإلكترونية، بتكفير المسيحيين وتحريم تهنئتهم بالأعياد، وإجازة «قتل الكفار»، إنزالاً لـ«الحدود» وإباحة تنفيذها، بيد المجتمع «دولة»، و«أفراداً».. لكن الأجهزة المعنية بالدولة، لا تتحرك لوقف «مشايخ السلفية» عند حدودهم، وإلزامهم حرمات السلام المجتمعي، وإخضاعهم للمحاسبة القانونية عن «الطائفية» التي ينفخون فيها، وخطاب الكراهية ضد «الآخر» الذي يبثونه باستمرار، وبلا هوادة.. إن «الفقه السلفي مهووس بالعداء الشديد للإخوة الأقباط، باعتبارهم «كُفاراً»، ولا يعني هذا قبولهم لباقي المسلمين، فالجميع لديهم «كفره»، إلا تابعيهم.. وما المواطن القبطي السكندري الذبيح يوسف لمعي، إلا ضحية لفتاواهم، فقد اجتمع فيه «حُسنيين»، كونه «مسيحي» و«بائع خمور»، ومن هنا وجد فيه «القاتل»، ضالته دفاعاً عن الإسلام الذي يتعلمه من شرائط التسجيل المتداولة بكثرة لمشايخ السلفيين، فهو أصلاً لا يقرأ ولا يكتب، وثقافته الدينية سماعية.. فقد صارت الإسكندرية معقلاً للسلفية ومرتعاً لمشايخها، حتى إنها شهدت تأسيس جماعة «الدعوة السلفية»، ونموها وازدهارها، وتغولها، فكان ميلادها في سبعينيات القرن الماضي.. «الإسكندرية» المحتلة بالأفكار السلفية البالية الآن، هي نفسها المدينة التي تأسست قبل الميلاد بأكثر من 300 عام، على يد «الإسكندر الأكبر» تلميذ الفيليسوف اليوناني أرسطو، وكانت محلاً لميلاد الملكة كليوباترا، وظلت على مدار الحقب والعصور، وحتى سنوات قريبة بعد ثورة يوليو 1952، نموذجاً عالمياً للتعايش مع الآخر من مختلف الجنسيات والأديان، عاش بها الإغريقون (اليونانيون)، والطليان (الإيطاليون) والأتراك، واليهود، وغيرهم في تناغم وانسجام جماعي مع أهل الإسكندرية.. كانت المدينة مقصداً مُفضَّلاً للكثيرين من الأجانب الذين تركوا بلادهم، واختاروا العيش بها، حبا للمدينة وسكانها المعروفين باللين والاعتدال والرقة واللطف وسماحة القلب، وبشاشة الوجه، وحلاوة اللسان، والترحاب بالغير.. يكفي شاهداً على التنوع الإنساني والثقافي للمدينة، «مكتبة الإسكندرية القديمة»، وإشعاعها على الدنيا بنور العلم والثقافة لمئات السنين، وشارع «النبي دانيال»، العريق الذي يجمع بين المسجد، و«كنيسة» أرثوزكسية هي الأقدم في مصر وأفريقيا، ومعبديهودي، وآثار ترجع إلى الحضارات والعصور اليونانية، والرومانية والإسلامية.
هذه المدينة فائقة السماحة والرحابة، وصل بها الحال أن تكون مسرحاً لجريمة قتل، بوحشية «ذبح» المواطن المسيحي المغدور، أمام أنجاله والمارة، لمجرد أنه قبطي أو بائع خمور، أو كليهما؟.. ألهذا الحد توغلت فيها الكراهية وتوحشت؟.. ثم يتفاخر «القاتل» بأنه «أقام الحد» ذبحاً على بائع الخمور، حتى يكون «الذبيح» عبرة لمن يعتبر.. لا أفهم ما هو العائد أو المكسب العظيم للإسلام في هذه الجريمة الإرهابية، وبهذا الأسلوب الداعشي الوحشي، الذي يبدو القاتل مُدرباً عليه؟.. هل ارتاح الآن «شيوخ وأحبار السلفية»، بعد نحر لمعي على يد تلميذهم النجيب؟، وهل هذه هي تحية الإسلام؟.. حتى ولو ثبت أن القاتل الذابخ، ليس منتمياً إلى أي تنظيم، فهو أسير القلب والعقل للكراهية، وفقه التكفير الذي برع فيه «أقطاب السلفية» المتمركزين بـ«الإسكندرية»، التي كانت مسرحاً لموقعة تفجير كنيسة القديسين قبل خمس سنوات، كما أن بها مركز «العامرية» الذي يشهد من وقت لآخر تحرشات طائفية بالإخوة «المسيحيين» من السلفيين، حتى يصل بنا الظن أحياناً، بأن «العاصمة الثانية» مختطفة، وعلى وشك إعلانها «إمارة الإسكندرية السلفية»، أو«الإمارة البرهامية» نسبة إلى الدكتور ياسر برهامي الزعيم الروحي لحزب النور السلفي وجماعة الدعوة، وتيمنا به وبركة.
التحية واجبة لرجال أمن الإسكندرية ووزارة الداخلية لسرعة القبض على «الذابح»، ويقينا سوف ينال العقوبة التي يستحقها.. لكن المشكلة الأكبر والأهم، هي الانتباه والتحرك لتجفيف منابع الكراهية للآخر، ووقف سيل الفتاوى التكفيرية، ولجم السلفيين وتحجيمهم، وهي كلها أمور تحتاج إلى ما هو أكثر من القبض على الجناة، والمحرضين لهم.. المطلوب هو جهد بحثي علمي لتحرير الإسكندرية من الكراهية والتكفير الوافدين عليها، وتشريح مشكلة التطرف وتفكيكها والوقوف على أسبابها الموضوعية، ومن ثم توصيف الحلول والعلاجات لهذه الأسباب، وهي لاشك، اجتماعية وثقافية ونفسية، وترتبط بالفقر والجهل وشيوع الخطاب السلفي والداعشي المتطرف.