فرانسوا باسيلي يكتب: عن رمضان في مصر، وحفلة زار في كندا

فرانسوا باسيلي يكتب: عن رمضان في مصر، وحفلة زار في كندا
فرانسوا باسيلي يكتب: عن رمضان في مصر، وحفلة زار في كندا

 

 

رمضان الستينات

من لم يحضر الستينات في مصر تعيس الحظ لأنه لم يحضر مصر في أجمل سنواتها علي الإطلاق، لا قبل ولا بعد الستينات كانت مصر في تلك  الحالة من الإندلاع الفني والثقافي والإجتماعي الهائل الباهر البالغ الإثارة، ولأننا في رمضان فمن حضر رمضان الستينات عرف كيف تحتفل مصر بأعيادها الدينية في فرح وبهاء بدون تزمت وتجهم وعدوانية، لأن من حضر رمضان الستينات مثلي يعرف أن محلات الأكل والشرب أي العصير بكل انواعها لم تكن تغلق طوال نهار رمضان، وكان غير الصائمين من أمثالي الأقباط ومن المسليمن المرضي والمسافرين والصغار والمسنين يدخلون محلات الأكل فيتناولون طعامهم بلا أي غرابة ولا عين مراقبة من أحد، ولم يضر هذا شهر رمضان في شيء ولم يقلل من بهجته للصائمين والفاطرين إطلاقاً،

وكنت أطلب من والدي أن يشتري لي فانوس رمضان وكان يفعل رغم أنه كان وقتها رجل دين قبطي ومدرس في كلية اللاهوت - الكلية الأكليريكية.

أما بخلاف رمضان فقد كانت الستينات هي سنوات التفتح الثقافي في كل مجال، لأن الدولة كانت تشجع الفنون، فدعمت قصور الثقافة في مدن وقري مصر، ودعمت صناعة وفن السينما فكانت مصر تنتج خمسين فيلماً في العام، ودعمت المسرح فأسست المسرح القومي الذي قدم أعظم المسرحيات لتوفيق الحكيم وألفريد فرج وسعد ألدين وهبة ويوسف ادريس وغيرهم، وأسست  مسرح الجيب الذي كان يقدم أحدث الموجات المسرحية العالمية مثل مسرح العبث بعد ظهورها علي مسارح لندن وباريس بأشهر قليلة،

ودعمت الدولة الرقص الشعبي فظهرت الفرقة القومية للفنون الشعبية بجانب فرقة رضا، وظهر البرنامج الثاني الثقافي الرائع في الراديو، ثم ظهر التفلزيون وقدم روائع الاعمال الفنية مثل الليلة الكبيرة للعظيمين صلاح جاهين وسيد مكاوي، ولم يكن التلفزيون يقطع الإرسال وقت الصلاة فمن أراد أن يصلي يصلي ومن لا يريد هذا شأنه وليس شأن الدولة، وكان عبد الناصر يحضر حفلات أم كلثوم وأضواء المدينة ويمنح الفنانين أوسمة الدولة الرفيعة.

وكانت فتيات مصر الجميلات يتبخترن في شوارع وسط البلد وعلي كورنيش الاسكندرية في الميني جيب ثم الميكروجيبب.. يا للهول.. 

 

وكان في مصر مسلمين وأزهر وقرآن يذاع في الراديو ولم يخرج المسلمون عن دينهم بسبب كل هذا بل كانوا أفضل مما هم عليه اليوم..

السبب أن ظاهرة التشدد والحذلقة الدينية لم تكن موجودة، لا شيوخ فتاوي ولا شعوذة ودجل ديني، فقد كانت الدولة قوية لا تسمح بالعبث والتسلط والسطو علي عقول الناس باسم الدين، الدولة كان لها دور كبير في قيادة المجتمع نحو الإنفتاح والفنون والعلوم وإبعاده عن مستنقعات الهوس والتشدد الديني الذي بدأ ينتشر منذ أوسط السبعينات بسماح من دولة السادات ثم استشري تحت أعين دولة مبارك الفاشلة التي كانت تقيم المدن الجديدة في الساحل الشمالي وشرم الشيخ دون أدني إهتمام بسرطان التطرف الديني الذي كان ينهش جسد وروح المجتمع المصري تدريجياً، فنجح الإخوان في تحبيب نساء مصر ونجح السلفيون الوهابيون في تنقيب مئات الآلاف منهن بدعاوي باطلة فشلت الدولة في التصدي لها.

هل يمكن أن تعود مصر إلي بهاء الستينات.. تلك الأيام المباركة التي هي أحب الأيام لدي خالق الكون الجميل الذي يحب الجمال؟

 

حفلة زار في شمال كندا 

برنامج 60 دقيقة من أهم وأعرق برامج التحقيقات التفلزيونية في أمريكا، عرفت منه وجود نوع جديد من الغناء يعتبر فتحاً في عالم الأغنية، وصفته فرقة الرولنج ستون بأنه غناء فريد .. مبدعته مغنية من الإسكيمو في مقاطعة في أقصي شمال كندا قرب القطب الشمالي .. الغناء الجديد هذا هو إحياء لأسلوب غناء أو نداء أو بكاء، وهو خليط منها كلها، كان يغنيه أهل الإسكيمو القدماء، تتبادل فيه امرأتان نوعاً من الصد والرد في الآهات السريعة تبدأها واحدها منهما وتتبعها الأخري، قامت المغنية باستخدام هذا الأسلوب كأساس لكنها بنت عليه طبقات من خلطات غنائية وموسيقية إضافية منها الروك ومنها الجاز ثم الرقص العشوائي والتطوحات الجسدية، مع تموآت صوتية وصرخات وبحات وكل أنواع الأصوات التي يمكن للفم والحلق اطلاقها، في عرض علي المسرح مع فرقة تعزف الموسيقي وتضرب الطبول وتشارك في الرقص والتطوح في نفس فالوقت.

وطبعاً ستلفت الظاهرة الجديدة الأنظار فكل جديد يلفت النظر خاصة في أمريكا بلد التجديد اليومي في كل شيء.

خطر في بالي أن أقرب شيء لهذا في تراثنا الشعبي في مصر هو حفل الزار، وقد شاهدته في صغري في مصر ولا أعرف إن كان موجوداً ما يزال أم انتهي واختفي من مصر كالطربوش والترماي والغناء الجميل، وفي الزار تجد إمرأة أو أكثر تتطوح وهي تمشي علي دقات الطبول في زفة في الشوارع، وتطلق المرأة الراقصة صيحات صوتية أو جسدية في صراخ جسدي ونفسي حاد،

وتجد أن حفلة الزار هي طقس يجمع بين الديني والجنسي بشكل مذهل حقاً، لعله إمتداد للجمع بين الإثنين في كاهنات المعتقدات الدينية القديمة، وكان الرقص جزءًا من الصلاة، والرقص له دائماً أبعاد جنسية فهو صرخات الجسد لوعةً من الحرمان في مجتمع باطني مغلق، صراخ صوتي وجسدي طلباً للخبز والماء المحرم والمقدس، والزار طقس صوفي و رأيته في شوارع مصر في شبرا في صغري، ولا أعرف إن كانت هناك دراسات عنه أو محاولات للإحتفاظ به كتراث شعبي مصري صميم.

وطبعاً ستجد من يقول لك إن الزار ربما إختفي كطقس لكنه موجود بقوة.. فالشارع المصري والحياة المصرية كلها هي حفلة زار قائمة دائمة لا تنتهي

 

 عقلك في راسك أم في الكمبيوتر 

كل المؤشرات والتطورات العلمية تدل علي أن  العقل لا يختلف إختلافاً نوعياً عن الكمبيوتر، وهذا ليس مستغرباً فالعقل هو من خلق الكمبيوتر علي صورته ومثاله، الإختلاف بين الإثنين  هو إختلاف في الدرجة فقط، والكمبيوتر في طريقه المؤكد ليصبح عقلاً ولكن بقدرات أعلي بكثير من العقل البشري، وهذا هو الإبتكار الأعظم للعقل .. أن يبتكر ما هو أذكي منه،

وبهذا يصبح السؤال هو هل نجح أو سينجح المخلوق في خلق من هو أعظم منه؟ أي هل نجح المخلوق في خلق الخالق الجديد؟ وهذا يقودنا إلي السؤال التالي.. وهو  هل كان هناك في الماضي أو سيكون في المستقبل .. فرق حقيقي بين الخالق والمخلوق؟ أم أنه كان فرقاً لغوياً فقط؟ 

 وفكرة توحد الخالق والمخلوق هي فكرة فلسفية عميقة تتطلب درجة أعلي من التأمل الفكري والسياحة الروحية الشاهقة، وهy فكرة موجودة منذ القدم لدي بعض الفرق الدينية وخاصة في الصوفية والبوذية، وبعض ألإتجاهات الفلسفية.

عندما سمعني أقول هذا الكلام أحد أصدقائي الصعايدة الذي ما زال يتكلم باللهجة الصعيدية قال لي .. ياه .. دا معلوماتك كبيرة جوي يا بوي.. دانت جاموس يا صاحبي. 

فرديت عليه بالصعيدي برضه وجلت له.. وهي فين العجول اللي تفهم؟


الحرب الإلكترونية قادمة 

حساب اميل الشغل اوتلوك - أصيب بفيروس أقعده عن العمل يوماً كاملاً واحضرت أحد خبراء الكومبيوتر يحاول اعادته للحياة  لعدة ساعات ولم ينجح سوي في أليوم التالي، برنامج اوتلوك هو من أكثر برامج الايميل إنتشارا وهو من صنع ميكروسوفت ذات نفسها، ومع ذلك لا تستطيع هذه الشركة العملاقة أن تحمي منتجها الأعظم من الفيروسات التي يرسل معظمها محتالون في روسيا أو الصين أو أووربا الشرقية، فهؤلاء تفوقوا علي أمريكا في هذا المجال بعدة سنوات ضوئية، هذا واضح جداً الآن،

وفي برنامج 60 دقيقة من اسبوعين فقط تحدثوا عن كيف يرسل المحتالون هذه الفيروسات إلي كمبيوترات المدن الأمريكية الكبيرة والصغيرة مطالبينها بدفع آلاف الدولارات لنزع الفيروس الذي أرسلونه وإلاً يتركونه يخرب بقية محتويات كمبيوتر المدينة، وذكروا أن هذا حدث لمدينة اتلانتا بولاية جورجيا، وهي مدينة كبيرة.

بالطبع أكدت المخابرات الأمريكية كيف نجحت روسيا في إختراق كمبيوترات الحزب الديمقراطي عام 2016 وفي إستخدام وسائل أخري للتأثير علي الناخب الأمريكي خاصة من كان منهم يصدق كل ما يقرأ علي الفيسبوك وهم كثيرون. 

الواضح الآن أن أمريكا تخسر السباق في الحرب الإلكترونية، وبينما تنشغل الدوائر السياسية الأمريكية حاليا بصراعها الداخلي حول قضايا إجتماعية مختلفة تتقدم الدول الأخري كرسيا والصين بسرعة في المجال الإلكتروني مما يهدد بشكل خطير قدرة الولايات المتحدة علي الاحتفاظ بمكانتها كقوة عالمية مهيمنة. 

يحتاج الأمر إلي قيادات جديدة واعية وذكية ومخلصة مختلفة نوعياً عما تفرزه الصراعات السياسية الحالية، وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجة أمريكا اليوم.

 

 

رامي مالك ومحمد صلاح

عدد مجلة تايم العريقة الخاص بأهم مئة شخصية مؤثرة في العالم في 2019 الذي صدر الشهر الماضي، واحتفالية المجلة بهذا في حفل ساهر يمكن إعتباره خرافياً لإجتماع هذه المئة شخصية المؤثرة عالمياً في مكان واحد، وهي نخبة من الفنانين والسياسيين والمثقفين والرياضيين والنشطاء في حقوق الإنسان وغيرها من مجالات الحياة الهامة، فهي نخبة خاصة جداً، ومختلطة جداً، وتكاد أن تكون خالية من المحسوبية والفساد الذي يلطخ كل شيء آخر في العالم بسبب ضعف النفوس وضعف المهنية في أي مجال، 

 

ولذلك يحسب لمجلة تايم العريقة احتفاظها بدرجة عالية من المهنية في اختياراتها السنوية، لأن سمعتها المهنية كصحافة محترمة أهم لديها معنوياً ومادياً من أي شيء آخر، وهو مستوي لا ترقي إليه سوي المؤسسات الصحفية العريقة في العالم ومنها النيويورك تايمز والوشنجتون بوست وقليل جداً بعد ذلك،

لنا أن نفخر برامي مالك ومحمد صلاح لاختيارهما ضمن هذه الكوكبة عن إستحقاق تام، واعتماداً علي الموهبة وحدها، ومع كل الفرح والفخر بهما، فلا شكل أننا في نفس الوقت نحزن لغياب مثل هذه المعايير المهنية العالية الصادقة في مصر والشرق العربي في كل مجال، ولو كان محمد صلاح ورامي مالك في مصر فالأرجح أن موهبتهما كانت ستختنق داخل سجن تراث هائل من الفساد والكذب والمحسوبية والفوضي الإدارية والتدني المهني وقبول الإحتيال كأسلوب حياة معتمد ومعترف به ثقافياً واجتماعياً وسياسياً. 

نأمل أن يعود اليوم الذي تظهر فيه المواهب العالمية وهي ما تزال في مصر، كما حدث مع نجيب محفوظ، وذلك بأن تهتم الدولة ببناء البشر، وليس فقط بناء الحجر.