إدوارد فيلبس جرجس يكتب: دكتاتوريات عَلَّمَت في وجه مصر

إدوارد فيلبس جرجس يكتب: دكتاتوريات عَلَّمَت في وجه مصر
إدوارد فيلبس جرجس يكتب: دكتاتوريات عَلَّمَت في وجه مصر

البعض يظن أن الكاتب مخير في كتاباته ، لكنه في بعض الأحيان يكون مسيراً ، ليس كضغوط مانعة أو ضغوط سياسية لأنه في هذه الحالة لا يكون مسيرا ، بل يكون كاتبا معدوم الإرادة ، ما أقصده أنه أحيانا كثيرة يمسك بالقلم ليكتب في موضوع ما ، لكنه فجأة يغير اتجاهه تماما ليكتب في موضوع آخر بعيدا كل البعد عن موضوعه الذي تركه ، قد يكون مجرد خبر صغير ، أو فكرة أُوحيت له من خلال عنوان ، وهذا ما حدث معي ، كنت بعيدا كل البعد عن الكتابة في هذا الموضوع الشائك ، لكن مجرد عنوان دفعني دفعا لأتناوله ليس كهجوم على رؤساء تولوا حكم مصر ، لكن كحقائق من ينكرها فهو خائن للتاريخ أو أضعف من أن يبوح بها ، أو مريض بمرض خالف تعرف ، هذا العنوان يقول " لماذا منع الرئيس السادات " جوسلين صعب " من دخول مصر . لكن من هي جوسلين صعب ؟ ولماذا منعها السادات من دخول مصر؟!  فهي قصة لها علاقة بعنوان المقال أو كما قلت هي التي أوحت لي أن أخوض فيه . جوسلين صعب مخرجة وكاتبة سيناريو لبنانية ، ولدت في بيروت عام 1948 ، توجهت إلى فرنسا لدراسة العلوم الاقتصادية ، وعملت في مجال الصحافة بعد التخرج ، أخرجت العديد من الأفلام التسجيلية تجاوزت 30 فيلما . بدأت أعمالها في الإذاعة اللبنانية ، وتسببت مشاكساتها في إيقاف برنامجها " عيون المارسوبيلامي زرقاء " بعد خروج فقراته عن المحظور الاجتماعي في الإذاعة ، تعتبر أولى المراسلات الحربية العربيات ، اللاتي اقتربن من الجبهة في حرب أكتوبر عام 1973 . أعمالها المشاكسة عام 1976 أدت إلى دخولها في صدام مع الرئيس السادات ، بعد أن أتت إلى مصر وصورت مع الشيخ أمام وأحمد فؤاد نجم ما تسبب في منعها من دخول المحروسة . وظل منعها من دخول مصر سارياً إلى ما بعد عامين من اغتيال السادات . كانت نوعية الأغاني السياسية التي يغنيها ويلحنها الشيخ أمام وأحمد فؤاد نجم بعد هزيمة 1967 وتهيمن عليها نغمة السخرية ، سببا في دخولهما في مواجهات مع السلطات ، وأدت لاتهامها بتعاطي الحشيش ، وظلت السلطات تلاحقهما حتى حكم عليهما بالمؤبد ، ولم يخرجا من السجن ، إلا بعد اغتيال السادات بسنتين ، وكان السادات يطلق على أحمد فؤاد نجم " الشاعر البذئ " ، وتسببت محاولة " جوسلين صعب " الدخول مع  الخط الموازي لهما في صدور قرار بمنعها من دخول مصر ، ورحلت المخرجة " جوسلين صعب " من عالمنا في شهر يناير عن عمر يناهز 70 عاما بعد صراع طويل مع المرض . ليس عيبا أن أقول أن هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها عن هذه القصة ، أو أكون قد سمعت بها ومحاها الزمن عن ذاكرتي ، لكن في جميع الأحوال لفت نظري العنوان ودفعني أن أدخل في موضوع قد أكون ذكرته من قبل كمجرد تنويه ، وهو الديكتاتوريات التي حكمت مصر منذ عام 1952 وكيف تركت كل واحدة منها علامة في وجه مصر تحتاج لجراح تجميل عبقري لكي يمحوها ليعود الوجه لنضارته .  حتى الآن البعض لا يريد أن يعترف أن جمال عبد الناصر كان ديكتاتورا ، وحتى لو اعترف فهو اعتراف على استحياء ، وعلى الجانب الآخر تجد من يشجب الكلمة وينفيها تماما دفاعا أعمى عن سياسة عبد الناصر وقد يصل به الأمر أن تكون الألفاظ الخادشة للحياء هي الرد كجانب من الدفاع ، يخلطون بين شخصية عبد الناصر وسياسته ، الاعتراف واجب بأن عبد الناصر كان شخصية كاريزمية أثرت في الشعب وخاصة في ذلك الوقت ، ولا ننكر نزاهته ويده النظيفة ، لكن كل هذا لا يُغفر له أبدا سياسته وما أوصلتنا إليه كشعب وبلد، أخطأ عبد الناصر ، بالتأكيد جميعنا يخطئ ، وكقول السيد المسيح له المجد ، من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر ، الخطأ سمة بشرية ولا أحد معصوم منه ، لكن الأخطاء تتباين ، فهناك خطأ يعود إلى صاحبه فقط ليتعلم منه ، وخطأ يصيب المقربين فقط ، لكن أصعب أنواع الأخطاء هو ما يعود على جماعة أو أمة أو بلد أو شعب بأكمله لأنه كما يقال بالعامية " الغلطة بفورة " . وخطأ عبد الناصر أصاب البلد والشعب ، بالتأكيد أنا لا أجلد عبد الناصر فهو زعيم وطني راحل ، وسعى ليرفع كرامة المواطن المصري ، لذا أحبه المصريون وأنا منهم وحزنا عليه عند وفاته ، لكنه كسياسي في موقع الحكم أرتكب أخطاء بالغة المقصود منها وغير المقصود كلفت مصر الكثير ، بل علمت علامة حزينة واضحة شوهت وجه مصر ، ولن أكون قد ذهبت بعيدا أن قلت أن أخطاء عبد الناصر بدأت عقب الثورة مباشرة أو بفترة قصيرة عندما عزل اللواء محمد نجيب الذي تولى الحكم بعد الثورة لأنه كان أكبرهم رتبة وسناً ، وتولى الحكم بدلا منه ، على الرغم من أن الشعب ثار ضد هذا القرار فعاد للحكم ثانية في مارس 1954 ، لكنه بعدها أُجبر نهائيا على ترك منصبه في نوفمبر من نفس العام ، تسرع عبد الناصر في عزل محمد نجيب ، الذي كان قائدا للثورة ، وتم وضعه تحت الإقامة الجبرية مع أسرته على الرغم من أنه كان برتبة لواء ، وكان من الممكن أن تحل اختلافات وجهات النظر بطريقة أخرى غير الأقصاء ، عبد الناصر كان منفردا برأيه وقراراته ، فكانت لا بد أن تنفذ لدرجة أن من كان يخالفه الرأي من مجلس قيادة الثورة كان يقصيه جانبا .. فهل يمكن إطلاق أي مسمى على هذا الحكم سوى الديكتاتوري ؟! .وإذا انتقلنا خطوة للأمام وهي للخلف بالنسبة لمصر وهي آلية القضاء على الأقطاع ، هو كان ليس قضاءاً لكنه كان ذبحا بطريقة حاقدة أكثر منها إصلاحية ، ذبح مزدوج ، ذبح لأصحاب الأرض وذبح للأرض نفسها ، كيف تصل القسوة أن يخفض ممتلكات الناس إلى 100 فدان ثم 50 فدان ، ولو سألت أي خبير زراعي سيجيب أنها كانت بداية لذبح الثروة الزراعية بتفتيت الرقعة الزراعية وتسليمها لفلاحين لم يعرفوا كيف يصونوا هذا النعمة ، كان يمكنه أن يرفع أجر العامل الزراعي لتحسين معيشته أو اقتطاع جزء فقط من الأراضي ، لكن سوء التصرف من الحاكم هو الذي أوصل الزراعة إلى هذا الوضع السئ ، ولا يزال عبد الناصر في أخطائه المدعمة بديكتاتوريته دون استشارة لأهل احكمة ، فأنفق الكثير من ثروة البلاد في مساعداته العسكرية تحت وهم الإمبراطورية وقد أتت ورطة الوحدة بين مصر وسوريا لتحكي وتقول عن التسرع في اتخاذ القرارات المنفردة بالرغم من أن الوحدات لا تأتي بهذا الشكل ، ولا بد من الاستفتاءات والاتفاقات المسبقة ، وكان يجب أن يكون هذا الخطأ مؤشرا لكي يبدأ في التأني في اتخاذ القرارات وأن يتخلى عن ديكتاتورية القرار ، فأتت حرب اليمن عام 1962 التي ساعد فيها عبد الله السلال الذي قام بالإنقلاب على الإمام محمد البدر حميد الذي كان يعشقه اليمنيون ، وإن كان الأمر انتهى بانتصار الجمهوريين بقيادة عبد الله السلال وإن كان هذا تعبيرا خاطئا فالانتصار تم على يد 59 ألف جندي مصري أرسلهم عبد الناصر إلى اليمن ولم تكن هناك دراسة كافية لعواقب هذا التسرع ففقدنا الألاف من جنودنا أما الذي عاش فلقد عاش في فترة قاسية نظرا لصعوبة التضاريس هناك فلم يكن يصل إليهم الغذاء والسلاح ، مما كان له أكبر الأثر على مستوى جيشنا في حرب 1967 فحدثت الهزيمة التي جملوها باسم النكسة واستنزفنا مواردنا ، ولن نكون بالغنا كثيرا عندما نقول أن هذه الهزيمة قصمت ظهر البلد ، ولقد لعبت نعرة عبد الناصر الديكتاتورية دورا كبيرا فيها ، عندما خرج في خطبة حماسية عام 1966 قائلا أنه لو حدث اعتداء على سوريا سندمر اسرائيل تدميرا ، ثم ذهب إلى شرم الشيخ وأعلق خليج العقبة وأعلن الحرب على إسرائيل دون أن تكون هناك أي استعدادات للجيش فكان سهلا على اسرائيل تدمير سلاح الطيران تدميرا شاملا ، أما ما حدث للقوات البرية بعد ذلك إذا أردنا أن نضع لها تسمية فلا يمكن أن نقول سوى أنها كانت مهزلة بكل المقاييس ، عرت القوات المسلحة بكاملها وبجميع رتبها ، وحاق الخراب الاقتصادي بالبلد ولا نكون بالغنا إذا قلنا أن هذا الخراب تبدو أثاره حتى هذا اليوم . ديكتاورية عبد الناصر التي علمت في وجه مصر ، لم تكن فيما ذكرناه فقط ، فلقد كان للتأميمات الاجتماعية وتأميمات المصانع والشركات الكبري دورا في شعور الناس بالضيق والقهر الشديد ، فقد كان لدينا قبل عهده 140 ألف مؤسسة صناعية، والإنتاج كان يكفى حاجة السكان، ويصدر الفائض، كما كان لدينا 578 نقابة معترف بها، ولا تقع عليها أية وصاية .. فعبد الناصر هو الذى عطل مسيرة التقدم فى المجتمع المصرى، وحول مصر من دولة دائنة لإنجلترا إلى دولة مدينة لمعظم دول العالم المتقدم ،  وفي النهاية أُغلقت المصانع ولم تعمل كما كانت والتي كنا نتميز بها ومن ثم كان لها دورها أيضا في التأثير على اقتصاد البلد . كثيرا من الأخطاء ارتكبها عبد الناصر لأنه لم يكن يسمع سوى صوت نفسه أي فرض ديكتاتوريته على الجميع ، وترك رجال الثورة ولجان التأميمات والتفتيش وخلافه تفعل ما يبدو لها فاغتنوا من وراء ما نهبوه والسبب انشغاله بديكتاتوريته وزعامته الموهومة التي كان يتوهم أنها ستمكنه من تكوين امبراطورية عربية هو رئيسها فكانت الضحية مصر . وإذا تركنا هذه الدكتاتورية لنذهب إلى الديكتاتورية التي تلتها في الحكم ، فبعد موت عبد الناصر قفز السادات على كرسي الحكم دون منافس ، لأن البلد كانت من الضعف بحيث لا يمكن أن تلملم شتاتها وتفكر وكانت كلمة الديمقراطية كلمة من الكلمات المعيبة التي لا يجب النطق بها ، السادات كان بطبعه متعصبا متطرفا ، عصبي لا يطيق أن يعارضه أحد ، وإن كان السادات قد صعد إلى الحكم في فترة عصيبة ، وإن كان السادات خاض حرب اكتوبر 1973 التي انتصرنا فيها وإن كانت هذه الحرب نتيجة حتمية لهزيمة 67 ، لكن أيضا لن ننكر حق الرجل ، لكن إذا كان عبد الناصر قام بثورة 1952 التي نتشدق بها وهي كانت خرابا بعد ذلك ، فالسادات قام بحرب 1973 لكنه بعد الانتصار انقلب إلى الخراب سواء في موقفه مع الإخوان الذين خرجوا من السجون وداخلهم أحقاد كافية لأن تدمر ألف وطن أو بالانفتاح الفضوي الذي أكل الطبقة المتوسطة ونزل بها إلى أسفل السافلين ، فتحولت طبقة المتعلمين والمثقفين إلى جوعى لا يفكرون في شئ سوى لقمة العيش ، وبكل غباء تحول إلى وحش مفترس في تعامله مع رجال الدين وخاصة المسيحيين منهم ولم يأخذ حرصه من الإخوان الذين أفرج عنهم ثم انقلب عليهم فكانت نهايته ، وماذا تركت فترة حكمه ؟ ، تركت علامة في وجه مصر انضمت إلى علامة عبد الناصر ليتحول المجتمع إلى الفوضوية والاقتصاد إلى التشويه ، الكلام كثير عن السادات الذي كان يملأه التعصب وكانت قولته " أنا رئيس مسلم رئيس لدولة إسلامية ، كالضوء الأخضر لتحول المجتمع إلى الطائفية والتعصب ، وكما قلت إنني خضت في هذا المقال بعد أن قرأت عنوان " لماذا منع السادات " جوسلين صعب " من دخول مصر ، فهو كان ديكتاتورا لا يطيق حرية الكلمة  . واعتقد أن الحديث عن فترة مبارك التي بلغت 30 عاما يكون كتحصل حاصل والتي بدأها بصورة معقولة ثم تحول إلى الأهمال وترك أمور الحكم في يد من يجهلون تماما كيفية النهوض بالبلد، فزادت العلامات في وجه مصر علامة أخرى ، أما فترة مرسي فأنا أرى أنه لا داعي للحديث عن فترة نكرة لرئيس نكرة .ولا يفوتني في هذا المجال أن أنقل كلمات للشاعر الكبير والمفكر " أحمد عبد المعطي حجازي " ، في 17 / 9 / 2008 ، عندما سُئل عن الفرق بين أوضاع مصر الآن وأوضاعنا في النصف الأول من القرن العشرين فأجاب : هذه الردة ترجع إلى الانقلاب الذي حدث في ليلة 23 يوليو سنة 1952 ، وإلا ما الذي يفسر لنا هذا الخراب الاقتصادي ، وما الذي يفسر لنا هذا الفساد وخراب الذمم ، وما الذي يفسر لنا سوء التعليم وتراجعه ، وما الذي يفسر لنا تراجع الثقافة التي تعد بمثابة العقل والضميرفي المجتمع ، فالحكم العسكري لم يقام على أساس الرابطة الوطنية الراسخة ، وهي المساواة في الحقوق والواجبات ، كما أفسد الأدوات الكفيلة بالوصول إلى سلطة حقيقية وهي الانتخاب الحر . هذه إجابة الشاعر الكبير .     

                                           

نظرة إلى الغد

******************

إن كنا تحدثنا في الفقرة السابقة عن الديكتاتوريات أو نظم الحكم المشوهة والتي شوهت وجه مصر وتركت فيه علامات غائرة ، لا يستطيع سوى الأعمى تكذيبها !! ، فمن الواجب أن نكتب بكل أمل بضع كلمات عن الغد، ولو أنني أري أننا لا نحتاج للكثير من الكلمات لكى نحكي ونقول ونشرح أن الأمل  لم يصبح أملا ، لكن التحقيق هو الذي أصبح واضحا ، فكل خطوات الرئيس السيسي تقول أنه ماض بعون الله لإزالة كل العلامات التي شوهت وجه مصر منذ عام 1952 بخطوات واثقة أو بجراحة تجميلية ناجحة ستعيد للوجه نضارته الذي كانت عليها في النصف الأول من القرن العشرين ، ليت الجميع يفهمها ويمدون أيديهم بكل معاونة وضمير وثقة في الله والرئيس السيسي . نعم الغلاء مس بعض طبقات الشعب كنتيجة حتمية للإصلاح أو قد يكون نتيجة غلطة الاقتصاديين في أسلوب التنفيذ ، لكن معالم الطريق الإصلاحية لكل الجوانب التي أصابتها العاهات في الفترة السابقة بدأت تأخذ طريقها في خطوات واثقة ، ووجه مصر الجميل الذي تركت فيه ديكتاتورية الفترات السابقة علاماتها البشعة لا بد أن يعود إلى نضارته .                                                                              

..............

إدوارد فيلبس جرجس

edwardgirges@yahoo.com

**********************