محيى الدين إبراهيم يكتب: مشهد عبثي

محيى الدين إبراهيم يكتب: مشهد عبثي
محيى الدين إبراهيم يكتب: مشهد عبثي

هو .. ها هو !!

في أحلك لحظات العتمة .. حينما لا تستطيع أن ترى أصابعك .. تسمع صوتك .. تفقد القدرة على ابتلاع نسمة هواء .. لحظتها .. ينتابك فيض نور كأنه هو .. ها هو .. خيط يبدأ بنقطه في فراغ محيطك .. ينبثق كوردة .. تومض الوردة .. تومض بألوان كألوان قوس قزح .. ومن رحم الوميض .. يلامس سطح صدرك برودة يده .. حتى تتحول البرودة إلى خيط .. يخترقك كطلقة رصاص تستقر في غرفة القلب .. حتى تغشاه .. فتتجلى عليك من عالم الروح .. روح .. فتستشعر الأنس بها .. أنس يحول كل ( العتمة ) إلى .. احد عشر كوكباً .. وشمس .. وقمر .. وسجود .. لنهبط جميعاً من خشيته .. وكأنك بالخشية تسبح في ملكوت خاص .. ليس كملكوت السماء .. ولا ملكوت الأرض .. إنما ملكوت خاص .. أضواء تلاحقها وتلاحقك .. ملكوت كأنه العشق .. وعشق كأنك تراه .. فتنظر إلى انسحاق حزنك لا ينشزه .. ولا تكتسى عظامه لحماً .. فقط يتم إنشاء الفرح نشوءاً آخر .. كأنها البداية من جديد .. او .. كما بدأ اول خلق .. يعيده !!

 

حين ضاع الوعي بسبب عشق إمرأة إغريقية عند جذع شجرة قال:

( هو ) الذي هو ( أنت ) الجالس عن يمين ( هو ) ولكنكما .. واحد !! .. أحدكما سيخضع للآخر ولكنكما .. متساويان !! .. رفع أحدكما الآخر إلى السماء، ولكن لا تمايز بينكما ولا في قدراتكما !! .. جعل أحدكما الآخر ولكنّ .. كليكما جوهر واحد !! .. أحدكما مولود من الآخر، لكن، قبل الولادة، كان كلاكما موجودًا !! .. من له المعالي تم ربطه في جذع شجره وتم قتله !! .. ( هو ) أعظم من ( أنت ) وحيث ( أنت ) هو ( هو ) !! .. ( هو) يعلم الموعد !! و(أنت) الذي هو (هو) لا تعلم الموعد، ومن ثم لا يوجد إلا ( هو ) فقط ولكن، هو ( هو ) وأنت أيضاً ( هو ) والروح التي تجمع بينك وبينه ( هو ) أيضاً، ومع ذلك لا يوجد إلا (هو ) واحد فقط .. رغم أن الظاهر يقول بثلاثة كل منكم (هو) !! .. ( هو) الوحيد «الَّذِي (مِنْهُ) الجَمِيعُ » جعلك أنت الوحيد «الَّذِي (بِهِ) الجَمِيعُ »!! .. وحين تموت .. ربما تظن أن ( هو ) تركك لتموت عند جذع الشجرة، فتصرخ: يا (هو) .. يا (هو) .. لماذا تركتني أموت عند جذع الشجرة ؟ .. ولكن .. لما لن تجد إجابة من ( هو ) ستستسلم .. ستلقي برأسك بين كفيك .. ستذرف الدمع وأنت تقول: يا (هو) .. أضع روحي بين يديك .. ثم تموت .. تكفيراً لك عن عشق إمرأة إغريقية والأكل من هذه الشجرة، وحيث اليوم .. تموت .. عند الشجرة !.

 

خرافة حقيقية أم .. حقيقة خرافية !!

كانت جدتي تقول أن القطط إذا دارت حولك ونظرت إليك فهي تحمل لك رسالة من الله حاول أن تفهمها فربما تكون فيها سعادتك !! .. كانت جدتي إمرأة بسيطة العلم ..لكنها كانت ذكية وشديدة الوعي رغم امتلاء محيطها بكافة أنواع الخرافة .. ورغم ذلك صدقتها !! .. فقد كنت أحبها جداً .. بعد عشرين عاماً سافرت إلى أقصى شمال الأرض حيث النهار أربعة ساعات ونصف .. لم تكن هناك قطة واحدة في هذا الصقيع .. كما أن القطط هناك يتمتعن بعناية البشر كأنهن ملائكة .. ومن ثم فلا وجود لقطط ضالة في الشارع كما هو الحال في بلادنا .. ذهبت لصديق لي يعيش في النرويج .. بمدينة أسمها "ستافنجر" .. قرر أن يصاحبني لمشاهدة معالم المدينة .. وعند بحيرة "ستافنجر" النصف متجمدة كانت هناك "قطة" كأنها تبحث عن شئ مفقود .. ورغم أن القطط لا تحب الماء وتخافه .. كانت هذه القطة تحوم حول شاطئ البحيرة غير مبالية بالماء ولا الصقيع .. مش ممكن !! .. قطة ؟! .. في هذا البرد القارص !! .. معقول !! .. نظر لي صاحبي وقال أنها هنا منذ أسبوعين .. يبدو أنها تائهة .. وبينما نحن في مسعانا لإشعال سيجارتين في هذا الجو البارد .. شاهدنا القطة وهي تقفز في اتجاهنا .. اختارتني أنا بالذات وأخذت تحوم حولي وهي شاخصة بنظرها لي .. ظلت تحوم حتى توقفت فجأة وأخذت تحدق بعينيها الخضراوين في عيني .. ظلت تحدق وهي جامدة لا تتحرك .. أحسست أن هناك سيلاً من البث الكهربائي يسري في جسدي جعلني أتجمد في مكاني .. كأن جرعة كبيرة من البنج تندس داخل شرياني تدفعني لفقدان الوعي .. لا حظ صديقي هذا المشهد العجيب ويبدو أنه اندهش خائفاً فركض نحو الطريق العام .. بينما أنا .. لم استطع أن أحرك خلجة واحدة في جسدي من شدة الخوف .. حولني خوفي لعمود من الخرسانة .. حجر من أحجار الرخام .. وكأنها تتحكم في عقلي عن بعد .. لم ينقذني من هذا المأزق سوى يد رجل تهز كتفي بشدة وهو يشكرني على أن عثرت له على قطته الضائعة منذ 11 يوماً .. منذ 11 يوماً ؟؟ .. منذ أن قررت في القاهرة السفر للنرويج وحصلت على تذكرة السفر !! .. حملها بين يديه واستدار فرحاً بالعثور عليها .. بينما هي تحدق في عيني وهي جامدة حتى اختفيا عن الأنظار .. تذكرت جدتي وقتها .. لكنني لم أفهم طبيعة هذا المشهد العجيب .. تملكني شعور بالتفاؤل .. شعرت أن شيئاً ما تغير بداخلي ..لم أكن أعرف ما هو .. لكن .. هناك تغيير كيميائي حدث داخل العقل والوعي .. وحين عدت للقاهرة .. تحقق مالم أكن أتصور أبداً .. أنه سيتحقق يوماً .. تحقق حتى انتابتني حالة من الذهول .. غير مصدق .. أن حدثت المعجزة !!

 

بقايا مختبئة

كلما حدثهم عن الحياة .. حدثوه عن الموت .. وكلما حدثهم عن العشق .. حدثوه عن الخوف .. غلف بقايا الإنسان المختبئ في قلبه .. وضعه في حافظة نقوده .. ثم استقل آخر حلم مر بالقرية .. تاركاً وراء ظهره جغرافيا .. كانت ذات يوم .. وطناً للحب !!

 

قال لي:

الحب .. هو في كل جنون رغبة مسحورة في عالم الجمال .. وفي عالم الجمال يمتلك تعويذة الخلود .. مفتاح الدخول للروح المفعم بالحياة .. بث معلوم .. حيث أنت ليس أنت .. إنما في متعة وجود آخر .. خلق آخر .. رسول يتبع وحي العشق .. وفي كل عشق يُبعث من جديد .. ليُوحي إليه من جديد .. وحياً لا يحمل ( كلل ) .. ولا (ملل ) .. ولا غياب .. فيحيا القلب حضوراً بالمحبوب مفعماً بالنور .. في أنس الذات .. ومفطوماً بالصمت .. اللذة .. ومنحوتاً من ذهول .. ومسحوراً في عالم إلأمكان.. ليمتلك في المرة الأولى من وجوده الأزلي .. خاتم الأبدية .. ومفتاح الدخول للروح الطيب .. مأخوذا ببراءة طفل !!

 

قُلتُ لها:

حين عرفت حروف الهجاء .. لم أدرك ( بها معني ) .. بينما .. حين عرفتك .. أدركت كل المعاني .. بكلماتك لي .. عشقك المتواري وراء امرأة تحمل كل كبرياء العالم .. أصبح لي زورق وميناء .. أصبحت في انتظار لحظة الإبحار .. القفز في محيط العودة .. الارتباط بنقطة الوجود .. الخروج في النهار .. التسلق على جدران الحقيقة .. الهروب من حيز الظن .. من أسوار الغياب .. والآن .. الآن فقط .. يختنق الخوف .. يتبدد التردد .. يتبعثر التراجع .. يخترقني نور .. منكِ .. فأري .. كل ما تبقى لي بطعم الحرية .. أراني ( معكي ) بطعم الحرية .. أنا .. أنا بطعم الحرية .. حتى الصخرة التي تطل على الشمس .. بطعم الحرية .. لن يعيدني بعض الأغبياء في زمن الجهل إلى ضياع الروح .. ها أنذا المنحوت ( بيديكي ) إنساناً من جديد .. صلداً أتحدى الجهل .. القهر .. الجوع .. حتى وإن كانوا قد سلبوني روحي في زمن ( اللاوعي ) .. لا أبالي .. لم يستطيعوا سلب ما تبقى لي من معني .. لم يسلبوكي مني .. فأنا .. في إحداثيات وجودك .. حين عرفتك .. أدركت كل المعاني .. وأصبح لي زورق .. وميناء !!

 

مشهد عبثي .. فارغ من السيناريو .. وربما .. فارغ من المضمون أيضاً !!

قال لي:  ليست مجرد إمرأة .. من المؤلم أن تمر بتجربة مع عودة وجه تعرفه .. تحبه .. تحن إلي لحظة كانت لك معه .. بينما يرتدي أسفل وجهه الحقيقي أقنعة .. أوجه مزيفة وأسماء مزيفة وجغرافيا مزيفة .. أمرأة .. لكنها في عذوبة الياسمين .. لا شك أنها تجيد التنكر .. تجيد التشكل .. الإبداع .. أما أنا .. فأجيد الإختباء والتخفي والمراوغة .. وبالرغم من أني لا أعرفني .. هي تعرفني جيداً .. ربما تصورت أن اختبائها وراء قناع لن يجعلني أتعرف عليها .. لكن .. حركة يديها .. أنفاسها .. نبرة صوتها .. أعرفها أنا جيداً .. لكنها مادامت قد تخفت وراء وجه وأسم وجغرافيا مزيفة .. فهي حتماً تدفعني لتأدية دور ( عبيط القرية ) معها .. فمارست معها دور (عبيط القرية ) الذي رسمته هي لي .. كان قبولي لهذا الدور عن قناعة لأسباب أهمها .. ربما عادت لتثأر مني كامرأة .. أنا بحاجة لأن تثأر مني كامرأة .. فقررت أن لا أحادثها تليفونياً حتى لا ينكشف أمر ( اللعبة ) من أول مشهد تمثيلي بيننا رسمته هي وبدأته .. أنا لا أحب التمثيل .. فأنا فاشل فيه تماماً .. ولكن .. ( هل مررت بتجربة حب حقيقية ودفعك الخوف أن لا تستمر فيها رغم رغبتك الشديدة في أن تستمر ؟) .. ( هل جربت أن تجد امرأة كأنها أنت .. تحدثك وكأنك تتحدث مع نفسك ثم .. من شدة التعلق .. تقرر الانتحار ؟) .. أنا مجنون حتماً .. لكنني لستُ مفعماً بالغرابة ! .. لست أنا الشخص المحافظ .. لست كل هؤلاء الفرسان الذين تحكي عنهم حكايات الجدة .. لست ُ نبياً .. ولا ملكاً .. ولا مليونيراً .. ربما أنا شخص ( غبي ) يخشى السعادة ! .. شخص لا يعرف قيمة أن يكون محاطاً بحب إمرأة ( حقيقية ) .. أو ربما إسعاد إمراة حقيقية .. على شاطئ البحر معها .. في مطعم اختارته هي .. وجدت نفسي الضائعة معها .. عثرت عليها لأول مرة .. ألقت بعملة معدنية في الهواء .. تعويذة حظ لم أفهمها .. ولم تكن عندي رغبة لأن أفهمها .. ملك واللا كتابة ؟ .. كتابة ! .. فأنا .. لم أحلم أبداً أن أكون ملكاً .. ولا أحب الملوك .. في آخر لقاء لي معها أعطيتها تمثالاً من قش .. قفزت به كطفلة في الهواء كأنه تمثالاً من مرمر .. ثم أدرت ظهري لها ولم أعد .. أدرت ظهري في نفس اللحظة التي أردت أن أعانقها فيها عناقاً محفوفاً بالخلود .. عناقاً يتوقف فيه الزمن ولا يتوقف فيه الحس .. هي أجبرتني بروعتها كأنثى أن .. أدرك مدى عدم استحقاقي لها كرجل .. خشيت أن تضيع مشاعرها الرطبة المليئة بالحياة .. والجمال .. والطفولة .. داخل ( خراب ) يابس ملئ بالجنون .. وبعد زمن .. حين عادت تبحث .. أو ربما تثأر .. من تحت قناع مزيف .. أسم مزيف .. جغرافيا مزيفة .. راودني الحنين لها مرة أخرى .. لكنني .. وجدت نفسي .. أمارس معها من جديد .. دور .. عبيط القرية !!