هدى حجاجى أحمد تكتب: قطار الفجر

هدى حجاجى أحمد تكتب: قطار الفجر
هدى حجاجى أحمد تكتب: قطار الفجر

وقعنا فى حيرة ...انا وزميلى . حقائبنا  الكثيرة ..والحركة ما بين  الصعود والهبوط  من تحت الارض الى ظهر محة السكة الحديد وحيث امامنا  بضع دقائق ليتحرك  القطار  من برلين الى حيث  يذهب بنا حتى اخر المانيا جنوبا  

كنا كريفيين  يتجولان أوربا المتنوعة  اللغات و الألوان   وكان القطار الدولى شأنه  كشأن  كل شئ  يعمل فى أوربا  ...يتميز بالمواعيد  الدقيقة الصارمة  

 وصافحت العيون الأربعة ....جمال حسناء  تقف فى نافذة  القطار ...بيضاء رسم  جسمها  الرشيق  خطوطا  جميلة الأنحناء  تتابع  العين الخط  الخارجى  الذى ينحنى فى الوقت المناسب  تماما ليدخل  فى صلب التكوين  الرائع  يعلو رأسها  شعر أصفر  أجمل من بريق الذهب   وتطل من عينين كالبحر  زرقة وصفاء   ...تمتد اناملها  الرشيقة  الى رأس  صبى حلو الملامح ...شديد الشبه بها ...وظننته شقيقها  ....اشارت الى الديوان وقالت  بدلال : 

لا أريد مضايقة من احد ...أننى هنا وحدى  

اعلان عجيب شد انتباه رفيقى  وله أنف يشم المأة من الف ميل ...فقال لى  وكأن الامر مفروغ منه  ...سوف نبيت معها الليلة  هيا ...هيا وبسرعة  كانت الاذرع تحول الحقائب  فى نشاط  وبعد اعتراض بسيط منها  كانت تساعدنا فى تنظيم الحقائب  على الحوامل المعدنية  المرتفعة   فوق الرؤس ...! ثم دار الحوار السريع – بالالمانية – بين صاحبى   وبينها  عن الجو والبرودة  ...أما الطفل الوديع   فكان فى حوالى السابعة من عمره  والتقطت  من شفتيها  بعض مقاطع  من أغنية  فرانكو آراب  تقول (يا مصطفى يا مصطفى أنا باهبك  يا مصطفى ...فتأكد صاحبى أنها مرت على  بصمة من فرسان  الليل العربى  

 فأنتعش  وقال  لى كمن  صدقت فراسته  أنها ليلة مباركة  آى والله  ليلة مباركة  

كمن يقول أما قلت لك ...أن اعتراضها  هو فى الصميم  دعوة للمؤانسة ...بطريقة المرأة اللعوب  

كانت الرحلة بالقطار ليلا  ...سبع ساعات تقريبا   يقطعها القطار  من برلين فيقطع كل ألمانيا  حتى شمال  ايطاليا  مرورا بالنمسا  وتبادلنا  تدخنين السجائر  وكان معى زجاجة (لتر ) كاوكاكولا  فقدمت منها  للصبى  ثم لامه  ولزميلى  وخلعت المرأة فجأة حذائها  الأحمر اللامع  وتمددت على الكرسى  المخملى  الذى تحول بضغطة صغيرة  الى كنبة ...وفعلنا مثلها ...وأبتسمت المرأة لزميلى ابتسامة مشحونة بالارتياح  وأمتدت اصابعها  الرشيقة  لتطفئ  نور الديوان ...كان يؤرقنى أن يشاهد الطفل اى شئ  ولكن الطفل راح فى سبات عميق كمن ينام فى بيته على سريره  

كانت المرأة الصغيرة ذاهبة حيث يعمل  زوجها المهندس  المقيم فى روما ...وقالت انها عاشت  لمدة أسبوعين  (وحيدة(

لمرور أسرتها ببرلين  فأحتواها صاحبى ............ 

 وكنت اعطيهما  ظهرى وأتلهى  بمناظر  جبال الالب  المرتفعة الى مالا نهاية   ...كجدار بين السماء والارض   ولكنها فى ليلنا هذا داكنة السواد  ...جاثمة ..ثقيلة  كالاحزان  الممدودة  على صدرى  ...تركت الديوان بحجة الذهاب الى الحمام  

 ووقفت أمام نافذة القطار   

البلاد تجرى  بسرعة هائلة ...المناظر تلعق بصرى  

ولا أدرى كيف ارتبط  الوجود كله بسرعة البرق  ما يتدفق خلال العين  التى لا تشبع من النظر ...وضغطت على مشاعرى بعشرات  التفاصيل  كم ذبحتنا أيام البطالة   بوجهها البشع  وكم تألمت لرؤية  السكارى  والذين  ينتحرون  فى الهدوء والصمت  واللا عمل  وكم سافرت الى أعماقى  صورة طفلتى  وهى تودعنى  وتدعو لى بالرزق   والخير   ودموع زوجتى   التى تحبسها فى أصرار  ...ووجدتنى أسبح فى خواطر  الصقيع ....ثم رجعت للديوان  ...فوجدت صاحبى  وقد هدأ  تماما  وكأنه سيارة شفيت من اعطب   ودعانى  - بالعربية  - كى أنال  قسطا من الراحة  ..معها  ..ولكنى  نفسى كانت بعيدة   عنى  وساعدنى   ان المرأة تظاهرت بالتعب ...وأنقذنى تحريك الباب  بواسطة  ضابط الحدود  الذى أضاء  نور  الديوان  ليطلب  الباسبورات    ومعه رفيق   يحمل  ملفا ضخما  فى حجم  دليل التلفونات  يراجع  فى سرعة  مدهشة   بعض الاسماء عنده   

كان أمامنا  بضع ساعات  ىخرى  حتى  نصل  الى فيرونا  فى شمال  ايطاليا  ثم  نعمل  (أو مشتيجن )  يمضى  نفير  القاطرة – الى اتجاه فينسيا  شرقا ... 

قامت  المرأة  بجمالها  الآخاذ  لتصلح من شأن ثوبها ...وذهبت  بعد دقائق  ...وكان صديقى   على مشارف النوم  بعد طول جهد  والصبى الصغير  يقاوم البرد  - رغم التكيف  بالقطار  ويغطى  نفسه ببطانية  صغيرة 

 قال  رفيقى  الذى شاهدنى  اخرج   كتابا من معطفى  انها  حلوة   جريئة  ..صبوحة الوجه  ...لماحة  ,,,بنت بلد بحق وحقيق  

قلت له له ..حسن ...حسن  الله يبارك  

قال  وهو ينظر الى  كتابى  بقرف  سنموت  فى الاوراق ..... 

ولن يحزن عليك احد  رجعت المراة  ,,,,أعطيتها سيجارة كرافن   

 ومدت يدى بساندوتش  جبن رومى  ...فأكتفت بالسجارة  

لمس أناملها  اصبع يدى اليسرى  به خاتم ذهبى  وسالت متزوج ؟ 

-نعم .... 

- يبدو أنك تحب زوجتك   

نعم ... ولى طفلة رائعة  

ابتسمت  وقالت : 

- وأنا أيضا احب أبنى و  زوجى   

- لم اعلق ...ولكنى هززت رأسى موافقا  

قال زميلى بالعربية : طيب خاطرها  المرأة بكلمة تبل الريق ...داهية فى ثقافتك  

 قلت له البركة فيك  يا أخى العزيز  ..قمت بالواجب  واكتر  

 وشق القطار طريقه الى محطتنا  المرغوبة  ...فحولنا بسرعة  الحقائب  الى الرصيف من النافذة   فالوقت  ضيق دائما  ولابد من العجلة  والا فاتنا  القطار الآخر  وبينهما مسافة قصيرة  ولكنها مرهقة  بين الصعود  والهبوط   لاسيما  لمن معه  كل حقائبنا  وتلاشى دفء القطار  بعد خروجنا منه  حيث خرجنا  الى جو   تحت الصفر بتلاتين درجة    وتكومت الحقائب  على الرصيف  والثلج   الهش   ينمو فوق رؤسنا  ....يقول الصبى وهو يمسح  رأسى  (شناى ) وداعا   قالت وهى تلوح لنا  برقة متناهية  : فرصة سعيدة  ..حقيقة انها لحظة لا تعوض  ...قلت لها اعتنى بالطفل   يا سيدتى  ...فانه ولد ظريف   شددت  على يدى صديقى  ثم قبلتنى  بوادعة  ...وتباعدت الآكف والأيدى  المتشابكة   وانطلق القطار   

وصغرت صورة النافذة   التى يحتضنها  القطار ....وتلاشت  الا من لمعة  شعرها الذى يداعب الهواء  

 وهرولنا لنلحق بالقطارنا  فى أتجاه آخر  ....يدفعنا الثلج  الكثيف   ويدغدغ اعصابنا  المرتجفة  هواء الفجر المنعش  الجميل  

....................................................................................................