فرانسوا باسيلي يكتب: الشيخ الشعراوي.. شرارة الدروشة في مصر

فرانسوا باسيلي يكتب: الشيخ الشعراوي.. شرارة الدروشة في مصر
فرانسوا باسيلي يكتب: الشيخ الشعراوي.. شرارة الدروشة في مصر

 

في مثل هذا الشهر يونية من عام 1967 وقعت الهزيمة العسكرية التي صدم لها المصريون جميعاً حزنا وغضباً شديداً، ما عدا مصري شهير هو الشيخ الشعراوي الذي قال أنه سجد لله شكراً علي هزيمة الجيش المصري، لأنه كان يراه جيش عبد الناصر. 

إلي هذا الحد من التطرف والشطط كانت رؤية الشيخ الشعراوي الذي صار منذ السبعينات أول وأشهر الدعاة في مصر، وكان أول من كان له برنامج ديني دعوي أسبوعي في التلفزيون المصري، فبدأ بهذا ظاهرة دعاة التلفزيون، التي استفحلت بعد ذلك، كما بدأ في الواقع شرارة الدروشة الدينية في مصر، والعالم العربي كله، والتي استلمها الإخوان وداروا بها في كافة أروقة المجتمعات العربية، مستغلين هزيمة 67 للترويج لفكرهم البدائي المتشدد، الذي أدي في ذروته إلي نهايته الطبيعية في الفكر الداعشي الوحشي المدمر الذي عايشناه في السنوات الأخيرة في معظم البلاد العربية. 

فإذا تصور البعض أن الموقف المتطرف للشعراوي من هزيمة 67 هو موقف وحيد قد لا يعكس تطرف كل أفكار الرجل الذي كان يصول ويجول علي شاشات القنوات المصرية والعربية مفسراً للدين تفسيراً لغوياً قوياً، معتمداً علي تمكنه من اللغة العربية، فإلي هذا البعض أقدم بقية مقالي هذا، الذي سأفرده لتوضيح كيف أن أفكار الشعراوي كانت متشددة منذ البدء، وكيف أنه في اعتقادي كان من أشعل شرارة الدروشة الدينية في مصر منذ السبعينات.

أما تعبير الدروشة فهو أدق وصف لما جري في مصر، وكان التعبير شائعاً بيننا ونحن طلبة في الجامعة في الستينات، العصر الذهبي لمصر، فكنا إذا رأينا أو سمعنا موقفاً أو كلاما متزمتاً دينياً من أحد الإصدقاء نقول له مازحين وناهرين، "يا أخي بلاش دروشة"، فكانت الستينات هي عصر الإنفتاح الفكري والثقافي والفني الهائل في مصر، وكنا في شبابنا بالطبيعة وبالسليقة نميل إلي التحرر الفكري والإجتماعي، منسجمين في ذلك مع خطاب ثورة يوليو التحرري، خاصة أفكار وأشعار مثقفي الثورة وأهمهم المبدع الفذ صلاح جاهين، وغيره المئات من الطاقات الإبداعية التي انطلقت تكتب وتغني وتلحن وتمثل وترقص وترسم وتنحت وتمارس كل أنواع الفنون والإبداع المصري الأصيل والجديد معاً.

 

ولتوضيح أن الشعراوي كان شرارة الدروشة الدينية في مصر سأذكر حادثة كان والدي المتنيح القمص بولس باسيلي أحد أطرافها، ثم أقدم ملخص مقال قيم عن تطرف فكر الشعراوي للاستاذ مدحت زايد.

 

مما يذكر لوجه الحق والتاريخ أنه رغم كل الأفكار المتشددة والمكفرة للآخرين والمتهكمة بعقائدهم التي كان يبثها الشعراوي في التلفزيون المصري طوال السبعينات لم يقم أحد في مصر بالتصدي لأفكاره سوي والدي القمص بولس باسيلي، الذي طلب من التلفزيون وقتها أن يرد علي الشعراوي بهدوء فيما يخص تكفيره للمسيحيين لخطورة هذا علي الوطن ووحدته الوطنية، ورغم أن والدي كان نائباً سابقا في مجلس الشعب عن دائرة شبرا وكان معروفاً بمواقفه الوطنية القوية والمعتدلة، ويحمل وساماً في الخدمة الإجتماعية من سيدة مصر الأولي جيهان السادات، رغم كل تاريخه الوطني لم يقبل التلفزيون المصري السماح له بالرد علي الشعراوي، وكأن التلفزيون هو حكر علي الدعاة الإسلاميين وحدهم، وكأن الأقباط ليس لهم في وطنهم مصر مكان ولا صوت ولا حقوق.

 

وأمام هذا التعنت والقهر البين ما كان من والدي سوي أن سجل ردوده الفكرية القوية علي ثلاث شرائط كاسيت، خاطب فيها الشعراوي مفنداً أفكاره عن تكفير المسيحيين بدون تهجم ولا شتائم، ورغم هذا قام نظام السادات بالقبض علي والدي والإلقاء به في السجن قبل إغتيال السادات بشهر واحد، ولم يحدث أن قام شخص آخر في مصرلا قبلها ولا بعدها، لا من رجال ألدين المسيحي ولا من المثقفين، بالرد علي أفكار الشعراوي المتطرفة.

 

ولهذا سعدت حين قرأت مؤخراً مقالاً كتبه الاستاذ مدحت زايد عن تطرف أفكار الشعراوي، بعد نصف قرن من الإحتفال الزائد من الإعلام المصري والنظام المصري المتعاقب بالأفكار المتطرفة لهذا الداعية الذي صار مقدساً لدي الكثيرين، ومازلت حلقاته المسجلة تذاع من وقت لآخر في التلفزيون المصري والعربي حتي اليوم.

والآن أترك المجال لمقال الأستاذ مدحت زايد.

……………………………………………

الشيخ الشعراوى له مكانة خاصة فى قلوب المصريين الذين عاصروه طوال حقبتى السبعينيات والثمانينيات وحتى منتصف التسعينات ، إلى أن توفاه الله تعالى فى عام ( ١٩٩٨) ، وكانت أغلب الأسر المصرية تلتف حول التليفزيون عقب صلاة الجمعة من كل اسبوع للاستماع إلى الشيخ وهو يقدم خواطره الإيمانية حول كتاب الله تعالى ، وأذكر اننى كنت حريصا على متابعته ، ولا أنكر أننى أفدت منه كثيرا ، وهو يقدم تفسيرا لغويا لكتاب الله تعالى ، حيث كان رحمه الله يمتلك ناصية اللغة العربية

والحقيقة ، أنه قد جرت مياه كثيرة فى نهر الوطن منذ غياب الرجل عنا وحتى الآن ، ولايخفى علينا مايمر به الوطن من محن ومن أوقات عصيبة ، منذ أن انتشرت جماعات مايسمى بالاسلام السياسي ، والتى اتخذت من الإرهاب سلاحا ، ومن التكفير عقيدة

وحتى ، وبعد الإطاحة بجماعة الإخوان من حكم مصر ، فى ثورة يونيو ، فقد وجدنا أنفسنا فى مواجهة شرسة أمام من ورثهم من السلفيين أبناء الوهابيين ، والذين يناصبون أصحاب العقائد الأخرى العداء ، ويفتون بتكفيرهم ، ولا يعترفون بحقوقهم فى المواطنة ،التى كفلها الدستور لهم ،

وكلنا يعلم أن الرجل كان يتحدث من الذاكرة ، وكان حديثه تلقائيا متدفقا ، و بدون قيود ، و لكنه كان يحتوى أحكاما فقهية متشددة ومتطرفة ، كانت تمضى لحال سبيلها وقتها ، وكنا نغض الطرف عنها وعن تشددها وتطرفها ، أما الآن فإنه لايمكن التغاضى عنها أو تجاهلها ، بعدما تغيرت أحوال الوطن ، لما يمكن أن تفضى إليه من نتائج كارثية لاقبل للوطن بتحملها الآن ،. كما أن السكوت عنها يعد تقصيرا شديدا فى حق البلاد وامنها وامانها

ولمن يرغب فى أن يتحقق مما أقول ، فليس عليه إلا أن يراجع تسجيلات الشيخ على مواقع شبكة المعلومات ، فسوف يجدها ملأى بهذه الأحكام ، وأحاديثه وفتاواه عن كل ما يوجع المجتمع ، وما يعانى منه الناس ، وما لا تنتظم حياتنا إلا به ، كلها متاحة على هذه المواقع ، لمن يريد أن يتعرف ، وأن يتحقق من تطرفها ومن تشددها ،

ومنها ، وعلى سبيل المثال ، وليس الحصر ، مايأتى

إن للشيخ رأيا سلفيا

متشددا يؤكد فيه على مايسمى بحد

الردة ، علما بأن هذا الحد لم يرد فى القرآن ، ولكنه كان تخريجا فقهيا غريبا قال به الشيخ ، ناتجا عن تفسير غريب ، أيضا ، للآية الكريمة ( لا إكراه فى الدين ) حيث كان الشيخ يقول إن الإكراه لا يكون فى اعتناق الاسلام ، ولكن من دخل فى الاسلام ، واعتنقه دينا له ، فإنه يكون مكرها على عدم الخروج منه و إلا فإن القتل سوف يكون جزاؤه

إن للشيخ تسجيلا يفتى فيه بقتل تارك الصلاة حدا ان كان منكرا لها ، وان كان كسلا او اهمالا فإنه يستتاب ثلاثة أيام ثم يقتل

 

إن للشيخ تسجيلات تمتليء بتكفير أصحاب العقائد الأخرى ، شركاء الوطن
يحذرنا فيها تحذيرا شديدا أن نأتى بأفعال أو أقوال ترضى أصحاب العقائد الآخرى ، وإلا فسوف نكون قد خرجنا من ملة الإسلام ، وأصبحنا متبعين لمللهم 
وذلك فى تفسير غريب للآية الكريمة ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ،،،) البقرة

١٢٠

إن للشيخ رأيا صادما فى البنوك ، فهو لا يعترف إلا بما يطلق عليه ( البنوك الإسلامية) ، والتى كان يتفاخر بأنه من اوائل المؤسسين لها ، فى منتصف السبعينات ، واثناء حكم السادات ، ولما سئل عن السبب ، أفتى بحرمة التعامل مع البنوك الحكومية وغير الاسلامية بالطبع ، لأنها كلها بنوك قائمة على المعاملات الربوية ، كما يقول

 
ولعلنا لازلنا نذكر دعم الشيخ الشديد والصريح جدا لشركات توظيف الاموال التى انتعشت فى مصر خلال حقبة الثمانينات ، حيث كانت صور الشيخ فى كل مكان مع اصحاب هذه الشركات ، وهم يتسابقون فى استغلالها من أجل الترويج لشركاتهم

إن للشيخ آراء بالغة الترقق والمهادنة فى الحاكم ، وفى وتحريم الخروج عليه اتقاء للفتنة ، حتى ولو كان ظالما مستبدا ، وهو بالضبط رأى السلفيين ، ولعلنا لم ننس كلمته فى مجلس الشعب أواخر السبعينات ، وهو يتحدث عن السادات قائلا ( لا يسأل عما يفعل ) ، بضم الياء فى ( لايسأل )

إن للشيخ آراء متشددة أيضا فى مجال حقوق المرأة ، لم تعد تتواءم مع مقتضيات الحداثة ، ولا الواقع ، كما انه لم يكن ينكر زواج القاصر التى لم تبلغ المحيض ، وجاء ذلك فى معرض تفسيره للآية القرآنية ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ، إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ) الطلاق

٤

إن للشيخ رأيا متشددا ينادي فيه بما يطلق عليه حد الرجم للزانى المحصن ،. الذي لم يرد بشأنه شيء فى القرآن ، بينما هناك العديد من الآراء والأحكام الفقهية المعتبرة تنفى هذا الحد ، وتقول بحد الجلد الذى ورد فى القرآن

 
وجاء ذلك من خلال تفسير بالغ التعسف للآية الكريمة ( فإدا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ماعلى المحصنات من العذاب ) النساء

٢٥

إن للشيخ رأيا متشددا يؤكد فيه على شرعية جماعات الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر 
وهو يفسر ( فإدا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن بالمعروف ) البقرة ٢٣٤

إن للشيخ آراء متشددة حول قتال اهل الكتاب وإكراههن على الدخول فى الاسلام والا فالقتل او الجزية ، التى يعطونهاعن يد وهم صاغرون

 

وبعد


فإن هذه مجرد أمثلة سريعة للتشدد الذي كانت تتسم به آراء الشيخ ، وهى قليل من كثير ، أو غيض من فيض كما بقولون ، ولنا جميعا تصور كيف يمكن أن يؤدى ذيوع وانتشار مثل هذه الأحكام إلى نتائج كارثية فى ظل أجواء الاحتقان والاستقطاب والحرب على الإرهاب التى يمر بها الوطن

 

الشيخ لا يزال يتمتع بمكانة كبيرة ومتميزة فى وعى المصريين ، ولايزال يحظي بجماهيرية عريضة ، ولاتزال تسجيلاته ملء السمع والبصر ، تحرص الفضائيات والإذاعات على بثها فى كل وقت وحين ، بينما العقل والحكمة يقتضيان مراجعة هذه الأحكام المتشددة فى تراث الرجل ، والتى ليست فقط تقف عقبة فى طريق تجديد الخطاب الدينى ، ولكنها ، وهو الأهم ، تمثل خطورة شديدة على أمن البلاد القومى ، إذا بقيت هكذا دون مراجعة وتفنيد وتصحيح ،

 

و لأن الشيخ الشعراوى ، قد خلع الناس عليه لقب ( إمام الدعاة ) ، فى عصرنا الحاضر ، وأن الدعاة من أبنائه ، يتخذونه قدوة لهم ، ومثلا أعلى يحتذى ، وانهم ومن فرط حبهم للرجل ، والذي يكاد أن يصل إلى درجة التقديس ، يكادون يحفظون خواطره عن ظهر قلب ، ويرددونها بحماس وباقتناع وهم يعتلون المنابر ، وفى دروس المساجد ، كما إنهم لا يسمحون مطلقا أن يجادلهم أحد حول صحتها ، لأنها أصبحت تقريبا من المقدسات أو المسلمات ، واحتلت مكانا متميزا من قائمة المعلوم من الدين بالضرورة ، بينما هى ليست كذلك

كما لايخفى علينا أن معظم آراء الشيخ وأحكامه الفقهية ، يحفظها أيضا كثير من المصريين ، على اختلاف درجاتهم وحظوظهم من التعليم والثقافة ، ومن الامور المعتادة أنك تسمع كثيرا ممن يستشهدون بها فى أحاديثهم العادية ، بشكل مبالغ فيه من التبجيل الناشيء عن الحب الكبير للشيخ ، والذي يصل الى درجة عدم قبول مجرد الجدال حول آرائه وفتاواه

 

فما العمل الآن إذا تجرأ إنسان ، وطلب مراجعة هذه الأقوال ، وتفنيدها ، فإنه ليس ببعيد أن يتهم فى عقله أو فى دينه 
بل إننى أظن أن مراجعة أحاديث البخارى ، سوف يكون أمرها أيسر وأسهل من الاقتراب من مراجعة خواطر الإمام

 

ولكن ، لا مناص من أن تقوم لجنة من كبار العلماء والفقهاء المجددين ، والذين لاينتمون إلى الفكر السلفى ، بالعكوف على مراجعة تسجيلات الإمام ، والرد عليها ، بعد تفنيدها ، وتخفيف ما بها من تشدد ،

إن عملا كهذا ، من فرط ضرورته ، لابد ان ترعاه الدولة ، وأن تعكف على تتفيذه فى أسرع وقت ممكن باعتباره ضرورة تمليها مقتضيات الحفاظ على الأمن القومى

الشيخ الشعراوى ، بشر ، داعية ، له ماله وعليه ماعليه ، ويجب تفنيد وتحقيق ومراجعة آرائه وأحكامه الفقهية وفتاواه ، هذا إن كنا جادين فى مسيرتنا نحو تجديد الخطاب الدينى ، ونحن نخوض حربا شرسة على الإرهاب