أبشع مشاهد يمكن أن تقع عليها عين شاهدتها في فيلم "صرخات من سوريا" إنتاج ال HBO، مشاهد لرجال داعش يقطعون رقاب الأطفال، نعم الأطفال، أولاد صبية لا تتعدي اعمارها الثانية عشر، يكبلون أياديهم في الخلف، ويجبرونهم علي الركوع في ميدان عام وأمام أعين الجماهير وبينهم أهاليهم، ويقف رجل لا يمكن أن تكون الرجوله من صفاته، يرفع سيفاً ليهوي به علي رقبة الصبي الراكع في رعب علي الأرض، مشهد لا يمكن تحمل بشاعته حوي وأنت تكرام مجرد تقرأ، وصفه دون أن تشاهده، لكن الفيلم "صرخات من سوريا" يقدمه لنا من الموصل التي كان يحتلها الدواعش، ويقوم الجيش العراقي منذ بضعة أشهر بمحاصرتها لتحريرها منهم.
لا يوجد في أي بلد عربي، سوي السعودية، العقاب بقطع الرقبة، أو الذبح، وكذلك العقاب بالجلد والرجم، ولهذا فالمسؤول الأول عن وجود هذه الهمجية البشعة في المنطقة العربية في وقتنا هذا هو وجود هذه العادات الهمجية في السعودية، يمارسونها هناك بلا أدني قشعريرة، يمارسها ممثلو النظام نفسه وليس الخارجين عليه فقط، ويباركها الساسة والدعاة معاً، ولا يطالب أحد هناك بالكف عنها، ولا أدني محاولة للتخلص من عادات بدائية لا تنتمي للإنسانية المعاصرة
ولا يمكن تقديم أي تبريرات لهذه الهمج
ية بأنها تتبع التراث أو الشرع، فهذا هراء، فالأديان تقدم لنا قيماً ومباديء إنسانية وأخلاقية يسمو بها الإنسان والمجتمع، وليس من المنطق تجاهل تطور الفكر والأدوات والأساليب الحياتية التي نعيشها تحت وهم الإلتزام بأساليب الحياة في بداية ظهور الرسائل والأديان، فلا إرتداء ما كان السلف يرتدي، ولا ركوب ما كان السلف يركب للإنتقال، هو أمور تستقيم أو تعقل، ومن بين هذه العادات الإجتماعية التي كانت سائدة في تلك الأزمنة البدائية إلي حد بعيد التي كان يعيشها البشر قبل مئات القرون، وقبل تواصل الإنسان إلي تطوير أساليب ومستويات ذات إنسانية راقية سامية لم تعد تقبل جز الرقاب بالسكين في ميدان عام أمام الكبار والصغار، وهو مشهد يؤذي مشاعر الصغار بشكل هائل، ويضمن إعادة إنتاج النفسية الداعشية المشوهة في أجيال صاعدة.
ويبقي السؤال عن مسؤولية السعودية في تكريس الذبح علي الطريقة الوهابية معلقاً، ليس فقط المسؤلية السياسية لتمويلها التيار الإرهابي السني في سوريا بالمال والسلاح، ولكن أيضاً مسؤليتها المعنوية والتاريخية لأنها من زرعت هذه الممارسات الهمجية من قطع الرقاب وجلد ورجم النساء والرجال، زرعتها وباركتها وروجت لها وماتزال تفعل بلا خجل ولا إنسانية ولا ضمير ولا صلة بالعصر وقيمه وممارساته. ثم تدعي وتتظاهر بأنها تقيم مع بقية البشر في كوكب واحد، وترسل أمرائها وملوكها لزيارة الدول الأخري وكأن هذه دولة مساوية لهم لا تختلف عنهم في شيء، ولا أدري كيف يستقبل العالم ممثلي دولة تقطع الرقاب وترجم النساء والرجال في ميادين عامة، كيف نتظاهر أن من يفعل هذا يمكن أن يكون دولة عضواً في منظمة الأمم المتحدة، لها مقعد بها، بل والاعجب أنها كانت عضواً في لجنة حقوق الإنسان في مجلس الأمن.
لماذا تستغربون مشاهد قطع الرقاب الداعشية بينما هي ممارسات وهابية سعودية قائمة حتي اليوم بمباركة الوهابية السعودية؟ إن مسؤولية هذه الهمجية الدموية لابد أن تقع علي كاهل السعودية، بنفس المنطق الذي حملها مسؤلية عملية إسقاط البرجين وقتل ثلاثة آلاف إنسان بريء كانوا يعملون به، وهي قضية أمام المحاكم الأمريكية الحالية، فكل البشاعات الداعشية في السنوات الأخيرة هي من فعل الجماعات الإسلامية السنية التي قامت السعودية والقطر وتركيا بتأييدها في البداية، بالمال والسلاح، في حربهم العبثية التاريخية ضد النظام الشيعي الإيراني، الذي لا يقل عنهم رجعية دينية وإجتماعية، فالمنافسة الغبية العشائرية بين هذين النظامين هي أساس تخريب المنطقة وتحويلها إلي مستنقع دموي لا نهاية له، لهذا فإن تحجيم النظامين هو أمر في صالح المنطقة والعالم
ولكن المدهش أن قرار الرئيس الأمريكي ترامب بمنع دخول أفراد من ستة دول إسلامية لا يشمل السعودية التي كانت هي المفرخ الأول لإرهابيي سبتمبر وماتزال هو الراعي الأول للسلفية الجهادية والفكر التكفيري في المنطقة والعالم،رغم أنني لا أعتقد أن المنع الكامل لمواطنين من أية منقطة هو حل فعال، ففي السعودية نفسها ودول أخري شخصيات متفتحة مستنيرة تقف مع بقية البشرية في نبذها للعنف والكراهية، وبعضهم معارضون للنظام السعودي نفسه، لذلك فمنع هؤلاء ومعاقبتهم بسبب جرائم لم يرتكبوها بل هم ضدها أمرٌ غير مقبول منطقياً وإنسانياً، بل هو أمرٌ يصب في صالح الإرهابيين، الحل هو في محاربة الفكر المتطرف في كل اشكاله وكل مواقعه وجهاته وكل من يقف معه ويموله بالمال أو المباركة الدينية أو السياسية، والنظام السعودي هو أهم هذه الجهات، سواء كان واعياً لدوره أو غافلاً عنه، وسواء كان قادراً علي التغيير أم عاجزاً عنه، فهو نظام يجب الضغط عليه بكل الوسائل حتي يفيق ويتغير، فهو كالمريض بمرض الإدمان، يحتاج أن يجبره الآخرون علي العلاج لكي لا يستمر في إيذاء نفسه والآخرين.
هل يمكن لأي إنسان أن يبرر كيف أن السعودية إلي اليوم هي البلد الوحيد في العالم الذي لا يسمح ببناء كنيسة أو أي دار عبادة أخري علي أرضه ليصلي بها الملايين من غير المسلمين الذين يعملون في السعودية؟ بينما تقوم السعودية بتمويل بناء آلاف المساجد في أوروبا وأمريكا تمدها بالدعاة السلفيين والفكر السلفي الوهابي الذي تريد نشره في العالم، وكأنه فكر الاستنارة الحضارية الراقية التي يجب نشره في العالم كله لخير الانسانية، هذه الإزدواجية البشعة في السلوك وفي الخطاب، وهذا الفكر الرجعي الكاره للآخر المستعلي عليه بلا مبرر، هو في قلب المستنقع الوهابي التكفيري الذي هو أساس تخريب الشرق العربي، وأساس ظهور القاعدة ثم داعش والإرهاب العالمي اليوم.
نعم لا بد أن يقوم العالم بتحميل السعودية مسؤوليتها عن الفكر والفعل الإرهابي في العالم اليوم.
تخريب المجتمع المصري
والدور المدمر للسعودية نظاماً وفكراً لا يقتصر علي خراب سوريا، ولكن قبل ذلك ومنذ نهايات السبعينات كانت لها المسؤولية الأكبر في تصديرها للفكر السلفي الوهابي إلي مصر، ففي غفلة وتواطؤ من نظام مبارك البليد الفاسد قامت النظام والمؤسسات السعودية بتمويل بناء وإدارة المئات من المساجد السلفية والمعاهد الأزهرية في جميع أنحاء مصر، وعلمت من مهندس مصري أن الملايين كانت تأتي من السعودية لشركتهم لبناء هذه المعاهد الأزهرية، التي يدخلها الطالب المصري من الطفولة حتي التخرج في الثانوية العامة دون أن يزامل طالب قبطي واحد، كما أنه يتلقي في معهده هذا سموم الفكر التكفيري الكاره للأخر، حتي لو كان هذا الآخر هو شريكه المسيحي في الوطن، وعلي مدي أربعين عاماً راحت السموم السلفية الوهابية تنتشر في الجسد المصري حتي أضر به أبلغ الضرر، وحوله إلي جسد مريض مهووس بالشعوذة والسوداوية والكراهية المريضة بعد أن كان الجسد المصري دائماً ضاحكاً مرحاً محباً مبدعاً عصرياً حضارياً رائداً.
ولهذا فمشروع التقارب المصري السعودي الذي حاوله الرئيس السيسي لم يكن في صالح مصر، وحتي لو لم تحدث كارثة القرار المصري بالتخلي عن الجزيرتين تيران وصنافير للسعودية، فالتقارب مع السعودية لن يمنح مصر سوي المزيد من خراب وسموم السلفية الوهابية، فكيف لدولة أن تستورد السموم بنفسها؟ وما تروج له بعض وسائل الإعلام حاليا في مصر من أن ترامب قام أو سيقوم بدور الوسيط لإعادة العلاقة بين البلدين هل أمر مخجل وضار من كل مناحيه، فلا يصح أن تكون تحركات مصر بتوجيه من أي قوي أجنبية سواء أمريكية أو غيرها، كما أن مصلحة مصر يجب أن تتخطي فوائد المساندة المالية التي ستأتي من السعودية، لأن الأخطار السياسية والإجتماعية والثقافية التي تأتي مع كل دخول للسلفية السعودية إلي مصر تفوق فوائد هذه الأموال الزائلة بكثير إن كنتم تعلمون، وأنتم تعلمون أو يجب أن تعلموا.
السلطة الرابعة
كل رئيس دولة في العالم هو طاغية محتمل إلا إذا كان المجتمع علي درجة عالية من التعليم واليقظة مع وجود آليات ومنظمات وتقاليد ديمقراطية راسخة، لأن أي رئيس سواء جاء بالإنتخاب أم لا يكون معه غالبا حوالي نصف الشعب، وليست المشكله هنا، ولكن تحت إمرة كل رئيس أيضاً نجد سلطات هائلة هي الشرطة والجيش والوزراء والمناصب الحكومية الأخري في الدولة، ثم معه جزء أو كل الإعلام الرسمي في البلاد الشمولية، ومعظم الإعلام الخاص أيضاً في البلاد البعيدة عن الديمقراطية، يهلل ويطبل للرئيس وينقل كل صغيرة وكبيرة من كلماته وأفكاره وقراراته وصوره وتحركاته، ثم معه جزء من السلطة القضائية، وجزء كبير من السلطة التشريعية ممثلة في حزبه أو في انصاره أو في المتسلقين، ثم غالباً معه السلطة الدينية لأنها تقف دائماً مع الرئاسة بحكم ميلها الطبيعي لرجل قوي لا يحاسبه أحد وهو الذي يحاسب الجميع، ثم تحت سلطة ومكانة الرئيس كل أدوات وممارسات الوجاهة الدولية وخاصة وزارة الخارجية وسفاراتها حول العالم
أي أن كل رئيس دولة وبكل هذه السلطات المطلقة تقريباً ما عدا في دول قليلة جداً، هو مرشح طاغية لا يمكن الاستهانة بإمكانية تحوله إلي طاغية في أية لحظة، وفعلاً معظم دول العالم يتحول فيها الرئيس إلي طاغية، ما عدا دول الغرب اللبرالي الديمقراطي، وهي لا تمثل أكثر من 20% من دول العالم اليوم، ولذلك فمن المهم جدا أن يقف الكتاب والمثقفون والفنانون والصحفيون بالذات تلقائياً في موقع خارج السلطة ومستقل تماماً عن الرئيس لكي يقدموا نوعاً ولو ضعيفاً جداً مادياً، رغم قوته المعنوية، من التوازن والمقاومة الناعمة والكشف والمعارضة الأخلاقية والإنسانية والوطنية للقوي الخشنة الهائلة التي يملكها كل رئيس، ولذلك فالطغاة فعلاً والطغاة إحتمالاً يكرهون الصحافة الحرة ويهاجمونها دائماً حتي لا تقف أمام مسيرتهم الدكتاتورية الغاشمة.
ولهذا فالواجب المهني والإنساني والوطني لكل صحفي وكاتب هو أن يكون مراقباً مستقلاً، وليس مهللاً تابعاً، للرئيس، وتلعب الصحافة الحرة والإعلام الحر دوراً بالغ الأهمية في منع تحول أي رئيس إلي طاغية، وتكاد تكون الصحافة والإعلام هي أهم وسيلة لذلك، ولهذا يسمونها في المجتمعات الديمقراطية "السلطة الرابعة"، ولهذا أقف شخصياً ككاتب في هذا الموقع المستقل المراقب لأي رئيس ولكل رئيس، يمكن لكاتب أن يؤيد سياسيات معينة لرئيس، ولكن لا يصح أن نجده مؤيداً لكل سياسات وقرارات الرئيس كما يفعل البعض في مصر وأمريكا أيضاً، خاصة من وجدناهم يهرعون لتأييد قرار التخلي عن الجزيرتين تيران وصنافير في مصر حتي قبل أحكام المحكمة، والاستماتة في الدفاع عن القرار إلي حد إصدار الكتب التي تحاول تبرير القرار، ومثلهم في أمريكا من أيد قرارات خاطئة لرئيس أمريكي كالقرار الأحمق غير الشرعي وغير الأخلاقي بغزو العراق، والذي كان الشرارة الأولي لخراب المنطقة بأسرها، وهو الغزو الذي وقع في مثل اليوم الذي اكتب فيه هذا الكلام الآن، يوم 19 من مارس، من عام 2003,
وقد قمت بدوري ككاتب حين كتبت ضد غزو العراق مرات عديدة في أكثر من جريدة من قبل الغزو ومنذ أن أعلن الرئيس بوش الصغير نيته السيئة في الغزو ثم بعده و إلي، وكتبت ضد التخلي عن الجزيرتين للسعودية أيضاً منذ صدور قرار الحكومة المصرية به، وأقل ما يمكن أن يفعله الكاتب هو أن يكون متسقاً مع نفسه، أمينا علي دوره كممثل للسلطة الرابعة، أو صاحبة الجلالة الصحافة أو الكلمة.
فبالتأييد الدائم لكل قرارات أي رئيس مهما كانت علي خطأ، والتنصل من مسؤولية كشف الأخطاء الرئاسية وانتقادها بشجاعة، يتخلي الكاتب و الصحفي والإعلامي عن سلطته الرابعة وعن صفته المهنية الأصيلة، ويخسر صفته كممثل لسلطة رابعة ويصبح كمبارس في مسرحية هزلية يقوم فيها بدور مضحك الملك، وشتان ما بين الدورين.