********
في الحكايات عن المهاجرين قد تجد طرائف وقد تجد غرائب وقد تقابلك أحداث لا يصدقها عقل . كنت جالساً بأحد المقاهي العربية ، ذهابي إلى المقهى دائماً بلا هدف ، فقط لأخرج من عزلة فرضتها حول نفسي ، أقضي بعض الوقت وأتطلع إلى وجوه ، تُفصح قسماتها الصامتة عن حكايات مختلفة . كنت على وشك أن أغادر المقهى ، عندما أقبل قادمان واحتلا مقعدين خلفي ، لم أقصد التصنت على حديثهما ، لكن صوت أحدهما الجهوري المرتفع هو الذي زج بكلماته إلى سمعي . البداية لم تكن فضولاً ، لكن البداية أحياناً تأسر بقيود لا سبيل إلى التخلص منها ، والكاتب معذور ، دائماً يبحث عن مورد رزق يغذي وريقاته ، تسللت كلمات صاحب الصوت الجهوري طائعة : " يا عم تصدق بالله ، الحكاية دي لولا أن معرفتي بأبطالها معرفة كويسه ، كنت قلت أنها حدوته فارغه " وأجابه الآخر : " ياعم احكيلي ، دا باين علينا هنقعد هنا لنص الليل " ورددت في داخلي ويبدو أنني أيضاً "هأقعد معكما إلى منتصف الليل " . لم أندم على الوقت الذي أمضيته ، فلقد خرجت بحكاية طريفة .
*****
اليوم ليس يوماً عادياً في حياة "شريف الحديني " ، ساعات قليلة تفصله عن موعد وصول الطائرة ، سيقف في صالة الانتظار بالمطار ، يراقب بعين متوترة ، نظراته ستكون محصورة في البحث عن عروس ترتدي ثوب الزفاف الأبيض ، انتهى لتوه من إعداد الشقة لتكون جاهزة لاستقبالها . صديق عمره " كرم المنياوي " يقف إلى جانبه ، صداقتهما تعود إلى عهد الطفولة في قرية واحدة ، مدرسة واحدة ، جامعة واحدة ، أحلام واحدة ، ثم الهجرة غير الشرعية التي انتهت بالاستقرار داخل أمريكا ، اختلف طريق العمل ، لكن كانت تجمعهما شقة واحدة . أصر " كرم " أن يتركها لصديقه عندما قرر الزواج ، الشقة كانت مسرحاً لطيش الشباب والعزوبية . لم يتخذ " شريف " خطوة للزواج إلا بعد شديد الإلحاح من أبيه ليبعده عن طريق الحرام ، وافق على الزواج ، أرسل لوالده لينتقي له عروسه ، شرطه الأول والأخير أن تكون ربة منزل ، قصده الحقيقي أن تكون خادمة منزل ، يريد امرأة تعد له حاجته وتنجب له الأطفال . الأب لم يفهم الأمور من زواية تفكير ابنه الذي يمثل نوعاً من البشر ، لا يشغل فكرهم سوى البحث عن الثراء من أي طريق . بالنسبة له امرأة منكسرة ستكون أفضل من إمرأة تختال بجمالها وتشغله ولا تنتهي طلباتها التي بالتأكيد ستكون مكلفة من الناحية المادية . الاثنان " شريف وكرم " هربا من أداء واجب الخدمة العسكرية ، وبالتالي حُرِمت عليهما زيارة الوطن ، في أمريكا سلكا الطريق الذي يسلكه البعض وهو طريق زواج " البزنس " أي الزواج من نساء يحملن الجنسية الأمريكية نظير الاتفاق على مقابل مادي ليحصلا على الإقامة القانونية . ثم الطلاق بعد أن تنتهي المهمة . لكن في زواج الاستقرار المقبل عليه "شريف " ، انتقى له أبوه بحكم خبرته التجارية فتاة رائعة الجمال ، وعلى الطريق العكسي رائعة الفقر ، لتقبل بالارتباط بشخص لم تره ولم يرها . دموعها لم تلين قلب الأب ، سحق قلبها تحت قدميه رافضاً ارتباطها بمن اختاره قلبها ، قائلاُ أنه لن يسمح بمزيد من الفقر ، الأب يرى أنه من الجنون أن يغلق باب الكنز الذي أتاه بطريقة تشبه مصباح علاء الدين . وافق على كل الشروط أمام رزمة الأوراق الخضراء ، توسلت الابنة أن يرحمها من البيع في سوق النخاسة ، لم تر العريس إلا من خلال صورة قديمة له ، ثم من خلال صورة مشوشة على الهاتف المحمول الذي أرسله إليها العريس لتتصل به من داخل المطار عند وصولها ، الزواج سيتم بالوكالة ، تذهب بعدها لتقدم نفسها وجبة دسمة للعريس المجهول ، لا تعرف عنه سوى اسمه ، نظراتها صرخت في وجه المأذون تترجاه بأن يكتب في عقد الزواج بالوكالة " ذبح على الطريقة الشرعية " . صديقه " كرم المنياوي " عندما شاهد صورة العروس ، وصفه بأنه محظوظ ، الصورة تشهد بأن العروس خضراء ندية كخضرة الصباح الباكر المبللة بالندى ، لكن شريف صدمه عندما قال في لا مبالاة بأنها امرأة مثل كل النساء المطلوب منها الإيفاء باحتياجاته وانجاب الأطفال ، وألا تزايد بجمالها لاستنزاف نقوده . نظر " كرم " نحو صديقه وكأنه يراه لأول مرة ، ولسان حاله يقول ، خسارة فيك ، ابتسم ابتسامة تحمل لوناً مخالفاً لكل ابتساماته السابقة ، وقال وهو يضرب ظهر "شريف " بيده :
- لقد انتهينا من إعداد كل شيء يا عريس ، وسأتركك الآن لتعد نفسك لاستقبال العروس ، لكن دعنا أولاً نشرب نخب زواجك ، ولا تبطئ في الذهاب إلى المطار حتى لا تجد عروسك نفسها وحيدة في بلاد لا تعرفها .
*****
دق جرس الهاتف في شقة " شريف الحديني " ، قفز سريعاً واختطف السماعة ، جاءه صوت صديقه " كرم المنياوي " :
_ صباحيه مباركه يا عريس ، آسف لو كنت أزعجتك مبكراً .
أجابه شريف بصوت تائه وبعيداً تماماً عن صوت عريس في اليوم الأول من زواجه :
_ قل صباحية سوداء كالقطران .
قال كرم ضاحكاً:
_ هل استعصت عليك العروس ؟!
_ وأين هي لكي تستعصي ؟! لقد ضاعت العروس .
_ هل لديك وقت للمزاح يا عريس ؟!
_ أنا لا أمزح ، العروس ضاعت ، لم أجدها بالمطار .
_ كفاك تهريجاً واخبرني متى يمكنني أن أحضر للمباركه للعروس ؟
_ أقسم أنني لا أمزح ، العروس ضاعت ، لم تكن بالمطار .
_ أنها ليست حقيبة يا رجل ، حتى تُفقد كما تقول .
_ لكن هذا ما حدث ، بعد أن تركتني بالأمس ، شعرت بإرهاق بعد المجهود الذي بذلته في الأيام السابقة ، قررت أن أغفو لبعض الوقت ، كان لا يزال أمامي ثلاث ساعات على موعد وصول الطائرة ، عندما استيقظت ، كانت الساعة تشير إلى أن الطائرة وصلت منذ فترة طويلة ، أسرعت إلى المطار ، ووجدت أن الطائرة بالفعل وصلت في موعدها ، ولم أترك ركناً في المطار لم أبحث فيه عنها .
_ لكن كان معها الموبايل الذي أرسلته إليها ، ألم تهاتفك ؟!.
_ وهذا ما يزيد من دهشتي .
_ قد تكون أجلت سفرها في آخلر لحظة ، لأي سبب من الأسباب .
_ فكرت في هذا ، واتصلت بأبي في القاهرة ، وقال لي أنهم كانوا جميعاً في وداعها ، ولم يغادروا المطار إلا بعد أن أقلعت الطائرة ، وتأكدوا من سفرها . وتأكدت من فرع شركة الطيران أن اسمها ضمن قائمة ركاب الطائرة .
_ ألم تتخذ أي أجراء ؟
_ حتى الآن لم أتخذ أي إجراء ، وأنتظر اتصالك بفارغ الصبر ، لاستشارتك ، فأنت في غمرة مشاغل الأيام السابقة ، لم تترك لي عنوانك الجديد أو رقم هاتفك ، والموبايل الخاص بك مغلق طوال الوقت .
_ سآتيك سريعاً .
_ لا تتأخر ، لنتشاور في هذه الكارثة .
_ وأي كارثة يا صاحبي .
********
عاد " كرم المنياوي " إلى شقته يسابق الريح ، بعد أن اتفق مع " شريف " أن يتروى قبل الإبلاغ عن اختفاء عروسه ، حتى يتصل بصديق له بالقنصلية المصرية ، ليستشيره عن الإجراء المضبوط . فتح الباب وجالت خطواته السكرى داخل الشقة ، تقفز عيناه من غرفة إلى غرفة ، ومن الحمام إلى المطبخ ، لا يتوقف عن المناداة ، " حنان " .. " حنان" وصدى الصوت يجيبه .. مغفل .. مغفل . ترنح وكاد أن يسقط كمغدور به أُطلقت عليه رصاصة من الخلف . فراشه المبعثر واختفاء الصندوق الذي يحتفظ به أسفله أصابه بنوع من الجنون المفاجيء ، تبخر الصندوق ومعه كل مقتنياته المالية التي واصل الليل مع النهار لجمعها طوال هذه السنوات ، وتبخرت معه "حنان " وحقائبها ، من هي " حنان " وما هي قصتها ؟ ، هذا هو اللغز المضحك . " كرم المنياوي " ، أتى إلى المهجر ، يحمل أشكالاً وأنواعاً من النذالة والخيانة ، وأول من استخدمها ضده ، هو صديق عمره "شريف الحديني " . تحركت ميكروبات الخيانة في دمه وتبعتها فيروسات النذالة ليعملا معاُ ، ليلعب لعبته القذرة للإستيلاء على زوجة صديق عمره . بعد أن فشل في رحلة البحث عن عروس في المهجر . إقامته مع " شريف " وصداقتهما التي لا تدع سراً مخفياً بينهما ، مكنته من تجميع كل خيوط اللعبة في يده . شاهد صورة العروس وعشقها غيابياً ، ألهمه عشقه بخطة شيطانية معتمداً على أن العروس لم تشاهد زوجها المنتظر إلا من خلال صورة مشوشة على شاشة الهاتف المحمول . وضع خطته على أن يكون هو " شريف " . انتظرها في المطار بعد أن وضع المخدر لصديقه في كأس الشراب الذي اقترحه كنخب في صحة العروس . رقد " شريف " تحت تأثير المخدر ولم يفق إلا بعد وصول الطائرة بفترة طويلة ، هرول إلى المطار ، لكنه لم يعثر على أي أثر يقوده إلى عروسه . سبقه " كرم " إليها وقدم نفسه لصاحبة فستان الزفاف الأبيض على أنه " شريف " . بدت بعض الدهشة داخل عينيها ، سرعان ما أخفتها ، قدمت له ابتسامة لؤلؤية ، سكر سكرة مزدوجة ، الفوز بعروس أرق من نسمات الفجر الندية ، ونجاح خطته التي خطط لها منذ أن تحرك الشيطان بداخله وأغراه بها . ذهب بالعروس إلى شقته الجديدة مهنئاً نفسه لعدم شكها فيه . حاول أن يرفع من فوق رأسها طرحة الزفاف كعريس ولهان ، أبعدت يده بشدة وهي تنظر إليه شذراً قائلة :
_ ماذا تريد ؟!
_ أريدك كزوجة .. أنتِ زوجتي بالوكالة .
_ أين " شريف " ؟!
فاق من أحلامه ، وأجاب مضطرباً :
_ أنا أعلم أنك قبلت الزواج منه مرغمة ، فهل يهمك أمره ؟!
_ أنا أسألك أين " شريف " أجبني أولاً .
_ يرقد في شقته ، دسست له المخدر ، لأعوقه عن الذهاب إلى المطار.
_ لماذا !!
_ رأيت صورتك ، وعشقتك قبل أن أراك ، استخسرت أن تكوني عروساً لأناني ، لا يبحث عن الحب مع زوجته ، لكنه يبحث عن خادمة كل وظيفتها خدمته وإنجاب الأطفال ، أما أنا فقد رأيت فيك سيدتي التي ستحول حياتي إلى نعيم لا ينفض .
_ وكيف ستحقق ذلك ؟
_ بالزواج الحلال ؟
_ وشريف !
_ هل يهمك أمره ؟!
_ رأيت صورته ، وكرهته قبل أن أراه .
بدا الإرتياح فوق وجهه وسألها :
_ وبالنسبة لي !
_ لقد صحبتك بالرغم من تعرفي عليك في المطار ، تعرفت عليك من صورتك التي على شاشة الموبايل ، والتي كتب " شريف " أسفلها " كرم أعز أصدقائي " .
سرور مضاعف طغى على قسمات وجهه:
_ أي أنك قبلت الذهاب معي بإرادتك الخالصة .
_ لن أرواغ ، نعم صحبتك بإرادتي ، لكن لن أكون لك سوى بالحلال .
_ إجابتك تثلج قلب النار .
_ لكني أريد أن أطمئن على مستقبلي معك .
قال وهو يشير بفخر نحو الفراش :
_ أسفله ثروة أيام الغربة كلها ، من هذه اللحظة ستكون تحت قدميك ، لأحقق لك كل ما تحلمين به في الحياة .
_ دعنا الأول نرى ما سيفعله صديقك .
_ لن تأتي في رأسه ذرة شك نحوي ، وسنبتعد عن طريقه إلى أي مكان آخر .
_ غداً تهاتفه وتبدي إندهاشك عندما يخبرك باختفائي ، وتسارع بالذهاب إليه حتى تعطله عن إبلاغ الشرطة ، إلى أن تدبر كيفية زواجنا ثم نختفي بعيداً عن طريقه ، كأنك ستذهب للبحث عن عمل في مكان آخر حتى لا يتسرب إلى داخله الشك .
_ مدهشة ، هناك مثل يقول العقل السليم في الجسم السليم ، وأنا اكتشفت اليوم أن العقل السليم في الوجه الجميل ، تخططين ببراعة وذكاء .
ضحكت ضحكة أذابة قلبه قائلة :
_ وأنا اكتشفت أن العقل السليم في الرأس الشيطاني ، خطتك الشيطانية لا تخرج إلا عن ذكاء شيطاني .
اقترب منها وهو يسير بخيلاء قائلاً :
_ وهل أعجبك ذكائي الشيطاني ؟!
_ بالتأكيد ، وإلا ما كنت اتيت وأنا أعلم أنك " كرم" صديق زوجي ، قرأت الذكاء في عينيك ، وقدرت أنه سيكون في أحلك الظروف أفضل من زواجي من "شريف "
اقترب بضعة خطوات أخرى نحوها لكنها أوقفته بيدها الممتدة عن أخرها قائلة:
_ ألم يخبرك هذا الذكاء ، بألا تقترب خطوة أخرى إلا بعد أن أصبح زوجة شرعية لك .
توقف كطفل صغير أمام النظرة الصارمة التي أكسبت وجهها مهابة وجمالاً أكثر قائلاً :
_ أشتاق إلى الغد ، لأقدم لك عقد الزواج فوق طبق من الذهب المرصع بالماس .
قالت ونظرة غريبة تطوف بعينيها :
_ أتعشم أن تسير كل الأمور كما أحلم .
******
يئس " كرم المنياوي " من العثور على عروس الأحلام ، أو ثروته المفقودة ، ألقى بجسده المتفكك كأفكاره فوق الفراش المبعثر ، الموضوع كله تحول إلى قصة هزلية ، عقله توقف عن التفكير تماماً ، سؤال يطن داخل أذنيه ، هل حقيقة اختفت " حنان " ، واختفت معها ثروة عمره ؟ ، هل يمكن أن تكون هذه الفتاة الرقيقة ، التي تسكب كل ألوان الجمال حولها ، تملك عقلاً شيطانياً يفوق شيطانية عقله ؟ ، أم أن ما حدث هو عقاب الغدر. استرعت نظراته التائهة ورقة مطوية فوق المنضدة ، قفز إليها ، الكلمات مكتوبة على عجل : لا تحزن ووفر دموعك ، الجزاء من جنس العمل ، وتأكدت الآن من صدق المثل القائل : " من حفر حفرة لأخيه وقع فيها " وأنت ترديت في حفرة أعمق بكثير من الحفرة التي حفرتها لصديق عمرك " شريف " ، أرجو ألا تصف نفسك بالغفلة ، واقبل بالأمر الواقع ، وأنا متأكدة من أن الذكاء سيقدم لك النصيحة ، بأن تنسى الموضوع برمته ، وأنا سأنسى أيضاً " . حاول أن تبدأ من جديد بعقلية غير شيطانية . بالرغم من أني مضطربة الأعصاب ، ومستعجلة ، إلا أنني كتبت لك هذه الكلمات وشهيتي مفتوحة للضحك ، بطريقة لم أعرفها من قبل . أرجو أن تقبل تحياتي يا فارس الأحلام .
******
" حنان " أصبحت فيما بعد سيدة أعمال داخل أمريكا ، وتزوجت من فتى أحلامها الذي تركته خلفها مع دموعه ، كيف ؟! ، هذه قصة أخرى .
إدوارد فيلبس جرجس