"الشرق يبدأ في سوريا.." *جان هيرو
إذا كان الشرق يبدأ في سوريا، فإنه يبدأ من ساحلها بالذات، وحاضرته الكبرى، مدينة اللاذقية.
لقد كان الساحل السوري دائماً، ملتقى الشعوب والحضارات، تفاعلت على أرضه الحضارات المحلية، مع الحضارات المجاورة والخارجية، ونتج عن هذا التفاعل ثقافة جديدة مميزة، وعالية التطور..
تعرف الغرب على الشرق، باعتباره الرقعة الممتدة من سواحل البحر المتوسط غرباً، الى البحار الشرقية النائية في الشرق. عبر قرون طويلة.
وكان اليونانيون القدماء، قد تعرفوا الى سواحل البحر المتوسط الشرقية. وكانت لهم معها علاقات تجارية، وقد أظهرت الاكتشافات الأثرية التي تمت مؤخراً، في موقع راس ابن هاني، وفى موقع البسيط، الى الشمال من مدينة اللاذقية. أن هذه العلاقات، كانت موجودة، قبل فتوحات الاسكندر المكدوني. في أواخر القرن الرابع ق.م حيث تعود الى القرن السابع ق.م. وكذلك العلاقات بين الساحل السوري وجزيرة قبرص، التي كانت في ذلك الوقت جزيرة (يونانية- فينيقية).
وقد أوجدت فتوحات الاسكندر المكدوني في الشرق، اتصالات جديدة بين اجزائه المتباعدة. وانجذبت اوروبا نحو الشرق، خلال حروب الفرنج، المعروفة حديثاً باسم الحروب الصليبية وخلال عصر الكشوف الجغرافية، وعصر النهضة الأوروبية Ranaissance انجذبت نحو ثروته واسراره وغرائبه.
وفي القرن الثامن عشر ومابعده ظهرت البعثات العلمية والجغرافية الغربية نحو الشرق وازداد الدور الذي لعبه المستشرقون في القرنين التاسع عشر والعشرين نتيجة لازدياد قوة العلاقة بين اوروبا والشرق، وأصبح الشرق مجالاً للتنافس، السياسي والاقتصادي الغربي، وقدر عدد الرحالة الأوربيين، الذين زاروا سوريا، في القرون الثلاثة الأخيرة، بأكثر من ثلاثمائة. تركوا لنا نصوصاً، مكتوبة بلغاتهم. وهي على الرغم من اهميتها الفائقة، كوثائق تاريخية، فإن جلها لم يعرب الى اليوم. حيث المجال واسع والحصاد وفير. وقد رأينا أن يقتصر حديثنا عما كتبه بعض اولئك الرحالة عن مدينة اللاذقية ونقتطف منها مانراه مناسباً ونوجزه فيما يلي:
1/هنري موندريل Henri Maundrell
رحالة انجليزي زار الشرق، ومر بمدينة اللاذقية في 4 آذار-مارس من عام (1696) وكتب عنها في كتابه: (رحلة من حلب الى القدس) مايلي:
"تقع اللاذقية على أرض مسطحة وخصبة، على شاطئ البحر. هذه المدينة بنيت من قبل سلوقوس Seleucusالذي أسماها على اسم أمه Laodicea وظلت المدينة تحتفظ بهذا الاسم، مع تغيير بسيط. وكانت قديماً مكاناً رائعاً لكنها تحولت الى حالة محزنة، من جراء الكوارث التي حلت بها. وظلت هكذا فترة لابأس بها. ولكن منذ اعوام أعيد بناؤها من جديد. وأصبحت المدينة الأكثر ازدهاراً على الشاطئ. دفعت في طريق التجارة من قبل (قبلان آغا الطرجي) وهو رجل غني، ويملك سلطات واسعة في هذه المنطقة والذي كانت له هواية كبيرة في التجارة..".
وفي النص أعلاه نجد تلميحاً الى أثر الزلازل التي كانت تتعرض لها المدينة، وكيف كانت تنهض وتستعيد أمجادها في كل مرة!..
2/ريتشارد بوكوك Richard Pococke
رحالة انكليزي شهير له كتاب (وصف الشرق) الذي يعتير أغنى وأهم مرجع في كتب الرحلات حول الشرق في القرن الثامن عشر. عند مرورة بمدينة اللاذقية في العام (1738) ذكر بوكوك (دير الفاروس) حيث رأى أطلاله. ووضع اشارة على الخريطة التي أعدها للاذقية، تدل على الدير. وتسمح لنا بتحديد موقعه. في منطقة (مقبرة الفاروس) الحالية للمسيحيين الأرثوذكس كما وصف مدينة اللاذقية قائلاً:
"تقع اللاذقية على القسم الشرقي من الرأس، الذي كانت تقوم عليه المدينة القديمة، وتفصل المدينة عن المرفأ مسافة ثلاثة كيلومترات.. وفي شرق المدينة توجد بئر ذات مياه جيده وصحيه. ويبلغ محيط المدينة ميلاً ونصف الميل" ثم يتابع قائلاً:
"منذ خمسين سنة، كانوا يتاجرون بالتبغ، مع مدينة دمياط فيصدرون القطن والحرير ويستوردون الرز والقهوة وكانت الأبنية تبنى بحجارة قديمة، والتطور جعل المدينة أكثر اتساعاً.
ذاقت اللاذقية من الزلازل أكثر من أنطاكية وفي اللاذقية قنصلية لانكلترا ودير للأرض المقدسة.
وقال بوكوك عن مرفأ اللاذقية في ذلك الزمان:
"..المكان الذي تقف فيه السفن ضيق جداً. بحيث تتصادم هذه السفن، عندما تهب الرياح، ولايوجد رصيف، لكن توجد ضفة حول المرفأ، والرجال يأتون بالبضاعة، مشياً في الماء. حتى يوصلوها الى السفن"!..
3/كومت دي فريير (1783)
رحالة فرنسي زار اللاذقية في العام (1783) وكتب عن أحوالها الاقتصادية قائلاً:
"تنتج أرض اللاذقية القطن، وكثيراً من التبغ الجيد، الذي تصدره الى مصر مقابل استيراد الرز.. تنتشر في اللاذقية أعمدة الغرانيت في الحدائق والحقول وأيضاً نجد بقايا العصور السابقة.. وتبتعد المدينة مسافة ربع ساعة عن المرفأ.. وكان للانكليز والفرنسيين وكلاء قناصل. وبعض صغار التجار يعيشون على العمولة، التي يحصلون عليها من تجار حلب.."!.
ڨولني Volney
هو قسطنطين فرانسوا دي ڨولني، من أشهر الرحالة الفرنسيين، بل الأوروبيين. ركب البحر الى بلاد الشرق، من ميناء مارسيليا في العام (1784) ووصل الى مصر. ثم مالبث أن انتقل الى لبنان، وقصد دير ماريوحنا الشوير. ولم يبرح الدير، حتى توصل الى التكلم باللغة العربية، فودع الرهبان وبدأ رحلته التي استغرقت ثلاث سنوات. وقد وصف أحوال الشرق في كتابه: (الرحلة الى مصر وسوريا) وقد أعطى ڨولني الصيغة الأرقى لكتب الرحلات، حين استبعد في كتابه تفاصيل الرحلة، والمغامرات الشخصية واعتمد على تبويب الملاحظات والمعلومات في فصول عامة. ويقع كتابه فى جزأين كبيرين وقد كتب عن اللاذقية اربعين صفحة نقتطف منها مايلى:
"المدينة الحديثة بنيت من قبل سلوقوس الأول باسم (لاوديسا Loadicee) تقع على شاطئ البحر وتمتد بلسان من اليابسة داخل البحر. واللاذقية تقوم بتجارة كبيرة وخاصة بالتبغ حيث ترسل كل سنة اكثر من عشرين حمولة (باخرة) الى دمياط وتحصل بالمقابل على الرز الذي توزعه على سوريا العليا وتصدر القطن والزيت.
في زمن استرابون Strabo الجغرافي اليوناني (58 ق.م- 25م) كانت تصدر الخمر بدلاً من التبغ فتستهلكه مصر عن طريق الاسكندريه
...نحن لانستطيع ان نقول عن اللاذقية بأنها مدينة حربية لأنه ليس لديها مدافع ولا اسوار ولاجنود يبلغ عدد سكانها من (4- 5) آلاف نسمة.
ويتحدث ڨولني عن قرية (بسنادا) القريبة من اللاذقية والوثيقة الصلة بها. فيصفها بأنها قليلة السكان. فيها بناية بناها تاجر انكليزي .. تحتوي على نبع جيد، ينبع من الصخور وتمتاز هذه المنطقة بجمالها وبصحة مناخها.
ثم يذكر ڨولني الغزلان، التي كانت تتواجد في ضواحي اللاذقية، بنوعيها غزال الجبال، وغزال السهول.. ويشير الى وجود قنصليات، لكل من انكلترا وفرنسا وايطاليا، واسبانيا والسويد والدنمراك وهذا يدل على ازدهار المدينة التجاري في نهاية القرن الثامن عشر.
كان ڨولني قد بدأ رحلاته وعمره (26) عاماً لكنه في عمق نظرته وتحليلاته، قد سبق غيره من الرحالة، في الشهرة، وبعد النظر.
5/دي كورانسي (1816)
رحالة فرنسي، كتب عن اللاذقية قائلاً:
"مدينة تمتد على شاطئ البحر، والأراضي التي تحيط بها مغطاة بالحدائق .. اعمدة الغرانيت مازالت موجودة، أما المرفأ فقد أغلق من جراء تراكم رواسب السور، وبقايا الرصيف، وترسبت الحجارة في قاعه، وفي الشمال توجد قلعة عند مدخل المرفأ، تتصل مع الأرض بجسر ذي أقواس. ويتكون الشاطئ من صخور كلسية، قليلة الارتفاع، محاطة بطبقة رملية كبيرة، وفي الشرق سلسلة من الهضاب الخصبة، ويوجد في طرف اللاذقية قوس نصر بأربعة ابواب او مداخل، على أربع واجهات. وتزين قسمه العلوي رموز تعبر عن غنائم الحروب، ونقوش عسكرية. ونجد بقربه رواقاً على النمط الكورنتي محمولاً على اعمدة. ويوجد أيضاً صفان من أعمدة الرخام. إنها بدون شك تابعة للرواق السابق.
ويتاجر أهل اللاذقية، مع ميناء (فاماغوستا) و (لارنكا) ومع طرابلس.. اما تبغ اللاذقية، فيعد من أفخر التبوغ، والتدخين مشاع بين الناس رجالاً ونساءً، وهم يعتبرونه صحياً، لأنهم ليسوا قادرين على مقاومة متعته"!..
6/جوزيف ميشو وجان بوجولا
مر هذان السائحان الفرنسيان بمدينة اللاذقية في شهر حزيران-يونيو من عام (1831) وكتبا عنها:
"كانت اللاذقية في العصور السابقة، أكثر المدن إزدهاراً على الشاطئ. وقد انقلبت عدة مرات، من جراء الهزات الأرضية.. إن الهزة التي حدثت في عام (1822) كانت كارثة كبيرة، فقد هدمت أحياء بكاملها. وكذلك الخان، وتناقص عدد السكان.
يمثل البازار الصورة الحية للمدينة.. ويتاجر أهل اللاذقية بالتبغ، مع البوسفور ومصر، ويأخذون الحنة (الحناء) بالمقابل هذه البودرة لها قيمة كبيرة عند نساء الشرق، فاللاذقية كانت مركزاً لتصدير هذه المادة، إلى انطاكية وحلب وايران. إن هذه البودرة لها لون أخضر، لكنها تصبح حمراء مائلة للبرتقالي عندما توضع على الجلد، بعد خلطها بالماء!..
إن محبي الطبيعة الجميلة، والمناظر الخلابة، يجدون مايشبع أذواقهم من زيتون ودراق، وأشجار النخيل والحمضيات. المنتشرة في الوديان والهضاب، وهي تشكل مشهداً لايمله النظر.
منظر اللاذقية رائع، وخاصة عندما تأتي اليها عن طريق البحر. أما هواء اللاذقية، فهو صحي جداً، وفي الصيف ينام الناس في الخلاء.
النبع الوحيد الجيد، هو نبع (سانت أليكسي) الذي يبعد مسافة صغيرة عن المدينة. ومن هنا يشرب غالبية السكان".
ونحن نضيف: أن شهرة تبغ اللاذقية، في البلدان الأوروبية كانت تزيد على شهرته في سوريا ذاتها. أما شهرة المدينة بكثرة الحدائق والبساتين فقد اشار إليها أيضاً العديد من الرحالة والمؤرخين والجغرافيين.
كارل ريتر Carl Ritter
عالم جغرافي ألماني، من مؤسسي عالم الجغرافيا الحديثة، كتب عن اللاذقية بين عامي (1854- 1855):
"بحسب قول الأمريكي طومسون، الذي زار اللاذقية عدة مرات بين عامي (1841- 1845) تمتد اللاذقية برأس من اليابسة داخل البحر. وعلى بعد مسافة قصيرة نحو الشمال. يوجد امتداد بطول ميلين مكون من الصخور، الذي يشكل عقبة في طريق السفن. التي تتكسر على هذه الصخور، ولهذا السبب أقيمت منارة كبيرة فى زمن الفرنج .. المياه ليست جيدة، وقليلة الوفرة. والذي يريد ماءً صحياً، عليه أن يذهب الى قرية بسنادا لجلب المياه".
وقد ذكر (ريتر) وجود قنصليات في اللاذقية لعدد من الدول الأوروبية.
8/م. لورتيه M.Lortet
عميد كلية الطب، في جامعة ليون في فرنسا. زار الشرق في العام (1875) وألف كتابابً هاماً عن رحلته أسماه (سوريا اليوم) قدم فيه صوراً واقعية، للأوضاع الأجتماعية، والحالة الجغرافية. وكتب عن اللاذقية قال:
"تقع اللاذقية فوق إحدى المرتفعات، القريبة من المرفأ، والتجوال فيها ممتع ومفيد، فمساكنها جميلة ومبنية من الأحجار المنحوتة بشكل منتظم، تزينها نوافذ متعددة الفتحات..
حول المرفأ توجد المخازن والمستودعات الضخمة التي تفوق حالياً حاجة التجارة في المدينة، ومرفأ المدينة في أغلب الأحيان يغص بالسفن الأوروبية. وكثير من التجار الأجانب، يتواعدون للقاء في هذه المدينة المزدهرة.
مياه الينابيع نادرة، وتجلب مياه الشرب الجيدة، من قرية بسنادا، بالجرار على ظهور الحمير، وترتدي النساء في اللاذقية الأقمشة القطنية الزرقاء والبيضاء، المصنوعة محلياً. وسكان المدينة نشيطون جداً"..
هذا غيض من فيض، مما كتبه الرحالة الأوروبيون عن مدينة اللاذقية، عروس الساحل السوري، وبوابة سوريا على البحر المتوسط.
إن للساحل السوري عطر الوردة الندية، التي يكفيها ابسط الأشياء، كي تتحول إلى باقة ذكريات مرصعة بندى الأسفار.