صورة اللاذقية في أدب الرحلات.. الرحالة العرب
"تقابل الأنظار مبتسمة بسمائها المضيئة وبحرها ورياضها الخضراء"
*رفيق التميمي
قد يكون غريباً أن يكون للرحلات أدب، ولكن هذا هو ماحدث فعلاً!.
لقد طاف الكثيرون من الرحالين العرب والأوروبيين وغيرهم، بأنفسهم في البلدان العربية، وقيدوا مشاهداتهم، وماوقع تحت ابصارهم فصوروا أحوال الناس والعمران بالعين الباصرة اللاقطة، فأصبحت كتاباتهم في كثير من صورها أدباً!..
ولانبالغ إذا قلنا أن الرحلات هي من أهم فنون الأدب العربي، فإذا قصر الأدب العربي في فن القصة، فقد قدمت كتب الرحلات الكثير من القصص، والمشاهد والمعلومات التي تصور الحقيقة حيناً، وترتفع بنا الى عالم خيالي حيناً آخر..
وقد كان للساحل السوري، وحاضرته الكبرى (اللاذقيه Latakia) نصيب كبير في أدب الرحلات، فقد زارها رحالون كثيرون، منذ ماقبل الميلاد الى اليوم. وإن في مؤلفات الرحالين، الكثير من النصوص ذات الأهمية البالغة، وفيها مقاطع هامة ومشوقة.. الحقل واسع، وفي أقسامه مجال كبير للحصاد. ولكن طلباً للاختصار، اقتصرت في مقالتي على بعض المقاطع الهامة، مما جاء عن اللاذقية في أدب الرحلات وحسبي أن اكون استرعيت الأنظار نحو هذا الموضوع الطريف!..
إبن بطلان (ت 1052م)
هو الطبيب الأشهر أبو الحسن المختار بن بطلان، مسيحي من أهل بغداد زار مصر وبلاد الشام، وكتب عن اللاذقية، التي كانت في ذلك الحين تحت حكم الروم: وخرجت من أنطاكية الى اللاذقية وهي مدينة يونانية ولها ميناء وملعب، وميدان خيل مدور. وبها بيت للأصنام، وهو اليوم كنيسة.. وهي راكبة البحر، وفيها قاض للمسلمين، وجامع يصلون فيه. وأذان في أوقات الصلاة الخمس. وعادة الروم إذا سمعوا الآذان بأن يضربوا الناقوس. وقاضي المسلمين الذي بها من قبل الروم.."
بهاء الدين بن شداد (ت 1234م)
هو القاضي المؤرخ، ابو المحاسن بن شداد، كاتب صلاح الدين الأيوبي ومدون أخباره. وقد رافق صلاح الدين في معظم حروبه. وكان معه عندما دخل مدينة اللاذقية، في شهر تموز- يوليو من عام (1188م) وقال عن اللاذقية في كتابه (النوادر السلطانية): "وهي بلد مليح، خفيف على القلب، غير مسور. وله ميناء مشهور، وله قلعتان متصلتان، على تل يشرف على البلد.."
عماد الدين الصفهاني (ت 1301م)
هو الوزير والأديب والقاضي الفاضل، والمؤرخ الأنيق الأسلوب. رافق صلاح الدين الأيوبي فى كثير من اعماله الحربية.. قال عن اللاذقية في كتابه: (الفتح القسي في الفتح القدسي): "..ورأيتها بلدة واسعة الأفنية، جامعة الأبنية، متناسبة المعاني، متناسقة المغاني، قريبة المباني، رحيبة المواني. في كل دار بستان، وفي كل قطر بنيان. أمكنتها مخرمة، وأروقتها مرخمة، وعقودها محكمة، ومعالمها معلمة، ودعائمها منظمة، ومساكنها مهندسة ومهندمة وأماكنها ممكنة، ومحاسنها مبينة. ومطالعها مشرقة، ومرابعها مونقة وأرجاؤها فسيحة، وأهواؤها صحيحة.." وقال عن قلعتها: "ثلاث قلاع متلاصقات، على طول التل متناسقات، كأنهن على رأس راس راسخ، وذروة أشم شامخ".
ياقوت الحموي (ت 1238م)
من أعظم الجغرافيين عند العرب، له كتاب (معجم البلدان) الذي امتاز بدقته واتساعه، وجمعه بين الجغرافيا والتاريخ، والعلم والأدب. قال عن اللاذقية: "مدينة في ساحل بحر الشام، فيها أبنية مكينة، وهي بلدة حسنة، في وطاء من الأرض، ولها مرفأ جيد محكم. وقد ملكها الفرنج فيما ملكوه، من بلاد الساحل في حدود سنة 500 للهجرة" (1107م).
شمس الدين الدمشقي (ت 1327م)
وهو المعروف بشيخ لربوة.. عالم موسوعي المعرفة، تجول في مصر وسوريا، ووصف مشاهدها، وقد ذكر مدينة اللاذقية في كتابه (نخبة الدهر في عجائب البر والبحر) قال: "واللاذقية محاطة بالبحر من جهاتها الثلاث، وهذه المدينة أشبه بالاسكندرية في بنائها. وليس بها ماء جار يسقي أرضها، وهي قليلة بالشجر، قديمة البناء، وبأرضها معدن رخام أبيض أخضر موشى. وبها دير الفاروس. من أعجب اديور في البناء. وله يوم في السنة. تجتمع النصارى إليه. والميناء الذي باللاذقية من أعجب الموانئ وأوسعها ولايزال حاملاً السفن الكبار وعليه سلسلة من حديد حاصرة لمراكبه مانعة من مراكب العدو".
أبو الفداء الحموي (1331م)
أمير من فرع الدولة الأيوبية، تسلم إمارة حماه، وهو صاحب كتاب (تقويم البلدان) كتب عن اللاذقية: "اللاذقية من ساحل الشام، وهي بلدة ذات صهاريج، على ساحل البحر، وبها مينا حسنة، مفضلة على غيرها. وبها دير مسكون يعرف بالفاروس.. ومدينة اللاذقية جليلة من أعمال حمص. ومنها إلى جبلة اثني عشر ميلاً وهي أجل مدينة بالساحل منعة وعمارة، ولها ميناء عظيم.."
ابن فضل الله العمري (ت 1348م)
ذكر دير الفاروس في كتابه (مسالك الأبصار) الذي كتب فيه عن مائة وست أديرة، من الأديرة الكثيرة التي كانت منتشرة في بلاد الرافدين وبلاد الشام ومصر. وقد كتب عن دير الفاروس قائلاً: "على جانب اللاذقية في شمالها، وهو في أرض مستوية. وبناؤه مربع، وهو حسن البقعة، وفيه يقول أبو علي حسن بن علي الغزي أبياتاً شعرية منها:
"لم أنس في الفاروس يوماً أبيضاً
مثل اللجين، يزينه فرع الدجى
واللاذقية دونه في شاطئ
بلوره قد زين الفيروزجا
في ظل هيكله المشيد قد بدا
للعين، معقود السكينة أبلجا.
ابن بطوطة (ت 1378م)
أعظم رحالة عربي (أمازيغي) على مر العصور. ضمن كتابه (تحفة النظار) مشاهداته في رحلاته. وجاء عنده عن اللاذقية، التي زرارها في عام (1325م) مايلي:
"ثم سافرت إلى مدنية اللاذقية، وهي مدينة عتيقة على ساحل البحر. وبخارج اللاذقية، الدير المعروف بدير الفروس، وهو أعظم دير بالشام ومصر، يسكنه الرهبان، ويقصده النصارى من الآفاق وكل من نزل به من المسلمين، فالنصارى يضيفونه، وطعامهم الخبز والجبن، والزيتون والخل البكر.. وميناء هذه المدينة، عليها سلسلة بين برجين، ولايدخل أحد، ولايخرج منها، حتى تحط له السلسلة وهي من أحسن المراسي بالشام".
الملك الأشرف قايتباي (1477م)
من أهم سلاطين المماليك البرجية في مصر. زار بلاد الشام ومر باللاذقية في العام (1477م) وقد دون أخبار رحلته، وزيره وكاتبه (ابن الجيعان) في كتابه: (القول المستظرف) قال فيه عن مدينة للاذقية:
"هي بناء عظيم، بها دكاكين كثيرة، خراب وعامر، من صنع الروم.. كانت بها ثلاث قلاع متلاصقات، وهي الآن خراب.. وهي واسعة الفناء، عالية البناء، بمينة مستديرة، بها مخازن وبرجان على فوهتها، بها سلسلة عظيمة.. وبها حمامات عامرة وخراب.." وقد جاء ذكر السلسة في العديد من المراجع الأخرى!.
عبد الغني النابلسي (ت 1730م)
كان من أشهر الرحالين فى عصره، كما كان شاعراً.. زار اللاذقية في عام (1693م) وكتب عنها في كتابه (الحقيقة والمجاز) مايلي: "وهي على ساحل البحر المالح، وماؤها الحلو مستخرج من الآبار، وعمارتها كلها من الأحجار، وأغرب ما رأينا فيها، أنهم يبنون الجدار في عرض حجر واحد، ويستقيم البناء بذلك"!.
البطريرك بولس بطرس مسعد (1866م)
مر باللاذقية بحراً في العام (1866) وهو في طريقه من بيروت إلى روما، وكان برفقته الكاتب (الخوري يوسف الياس الدبس) الذي كتب عن للاذقية في كتابه: (سفر الأخبار في سفر الأحبار) مايلي:
"وليس في المدينة إلا ميناء صغيرة، لاتدخلها السفن الكبار وعلى جانبها من الشمال برج داخل البحر، والمدينة في طرف لسان ومن ورائها تل صغير، وترى فيه المآذن من البحر، وحولها أشجار وبساتين، تزيد حسن منظرها وفي المدينة بعض آثار قديمة، ومن حاصلاتها التبغ المعروف بـ (أبو ريحة) وكان أعظم حاصلاتها قديماً الخمر، كما ذكر استرابون Strabo"..
الشيخ محمد بن عبد الجواد القاياتي (1844م)
مصري.. قام برحلة الى بلاد الشام، ودون أخبار رحلته هذه في كتاب بعنوان: (نفحة البشام في رحلة الشام) وفيه كتب عن اللاذقية:
"ومدينة اللاذقية هذه، أشبه ببلاد مصر، في بساتينها ولون أرضها، ووجود الطواحين، الشبيهة بطواحين بلاد مصر، على الخيول. وكذا النواعير أي السواقي".. وكان القاياتي قد قدم الى اللاذقية من مدينة طرابلس في لبنان عن طريق البحر!..
رفيق التميمي ومحمد بهجت (1916)
قدم هذان الأديبان الرحالان، وصفاً جميلاً لمدينة اللاذقية في كتابهما (ولاية بيروت) وقد كانت اللاذقية تابعة لولاية بيروت وكانت أقصى مايقع من المدن في شمال هذه الولاية وقد جاء في وصفها:
"إن اللاذقية التي تقابل الأنظار مبتسمة، بسمائها المضيئة، وبحرها الأطلس، ورياضها الخضراء، ومناراتها البيضاء. تلك البلدة الطيبة، التي كادت أن تكون في حضن الأمواج الزرقاء، التي تكللت بزبد فضي، على الساحل الشرقي من البحر الأبيض، والتي أخذت مبلغها من محاسن هذا المحيط الممتاز لاتقتأ تجود على قلب الأدب والشعر بدم فياض وعلى الباب الأدباء والشعراء، رحيقاً من الأبداع والذوق ساحراً"!..
فؤاد أفرام البستاني (1950)
قام الأديب العلامة فؤاد أفرام البستاني، برحلة الى سوريا، في ربيع عام (1950) مع عدد من طلاب وطالبات دار المعلمين اللبنانيين، وقد جمع مشاهداته وانطباعاته، عن هذه الرحلة في كتاب شيق بعنوان (خمسة ايام في ربوع الشام) او (رحلة الموازييك في سيارة بويك) ومما كتبه عن اللاذقية:
"اللاذقية هادئة الشوارع، مطمئنة الأسواق، تظهر في بعض أطرافها حركة مباركة، في إنشاء الأبنية الجديدة، فهي على تجدد دائم، بدأته ولم تزل.. وشوارعها نظيفة واسعة، وهي على حركة تجارية لا بأس بها، وعلى مستقبل في السياحة"..
هذا غيض من فيض، مما كتبه عدد من الرحالين العرب عن اللاذقية، عروس الساحل السوري، ذات التاريخ العريق والمستقبل الواعد المشرق..
أما ماكتبه الرحالون الغربيون عنها، فهو هام جداً، ومتمم لما كتبه الرحالون العرب، ولايتسع له المجال هنا، وسوف نلتقي معهم، فيما كتبوه عن اللاذقية في مقالة قادمة.