فرانسوا باسيلي يكتب: من أمريكا إلي مصر وبالعكس.. أحلام العام الجديد

فرانسوا باسيلي يكتب: من أمريكا إلي مصر وبالعكس.. أحلام العام الجديد
فرانسوا باسيلي يكتب: من أمريكا إلي مصر وبالعكس.. أحلام العام الجديد

الثلج يهطل في الخارج في نيويورك بلا إنقطاع، وبعكس المطر، لا تسمع صوتاً للثلج، يتساقط في هدوء تام، تنظر من النافذة فإذا بكل شيء في بياض، الأرض بيضاء والسماء بيضاء والبيوت بيضاء والأشجار بيضاء، الكون أبيض، لون العرس ولون الموت معاً، أليس غريباً أننا اخترنا البياض لوناً لأكثر لحظاتنا فرحاً وحزناً بلا فرق؟ 

لأنني قادم من أرض الشمس مصر، لا أحب الثلج، لكن الأولاد في أمريكا يحبون الثلج ويفرحون لقدومه فيخرجون للتزحلق عليه ويبنون به التماثيل ويصنعون منه كرات يتبادلون قذفها في وجوه بعضهم، عموماً المزاج الأمريكي هو مزاج فرح ولهو ومغامرة وجرأة، لا يقعدهم الثلج عن أي شيء، مباريات الفوتبول الأمريكي يلعبونها في وسط الثلوج الهاطلة ولا يلغون المباراة، الحياة لا تتوقف بسبب الثلج أو المطر أو الموت، كلها مجرد ظواهر طبيعية لا يرون فيها سوي الواقع الذي عليهم تحديه والإنتصار عليه،

 

فكرة الانتصار فكرة محورية في الحياة الأمريكية، الرجل ليس رجلاً إلاً إذا إنتصر، كل شيء معركة، العمل معركة، التجارة معركة وليست مجرد شغل، الانتخابات معركة هائلة، ولكن من تقاليدها أن يعلن المهزوم قبوله واعترافه بإنتصار غريمة وفوزه بالمنصب المتصارع عليه، ولابد أن يتصل به تليفونياً ليهنئه بفوزه معترفاً بهزيمته، وبهذا تنتهي المعركة وينتهي الصراع بل يتحول عادة إلي تحالف، فالواقعية هي العقيدة الأمريكية عليا.

 

في مصر لا يمكن أن يقبل المهزوم نتائج الهزيمة، لابد أن يرفضها ولا يتحمل نتائجها، يدعي أن الهزيمة نصر في شكل آخر، أو في عالم آخر، يرفض الإعتراف بها ليس من منظور فلسفي فهو قد لا يختلف فلسفياً في شيء عن خصمه، ولكن فقط لغياب القدرة علي التعامل الواقعي مع العالم والحياة، فنحن نتعامل عاطفياً وليس عقلياً، العاطفة الجياشة الهائجة هي نبراسنا ورائدتنا، العقلانية الباردة عدوتنا، لا نحبها ولا نطيقها إذ لا نستطيع معها أن نفجر ما بداخلنا من عواصف عاطفية ولواعج جنونية صارخة سواء فرحاً أو ألماً، لذلك أفراحنا صاخبة وآلامنا صاخبة، وحياتنا وأيامنا وليالينا ومدننا وشوارعنا صاخبة صاخبة. 

 

الثلج يهطل في الخارج لثلاث ساعات، وقد يستمر طول الليل، ولكن ستأتي العربات الجارفة لجرفه وتنظيف الشوارع قبل الفجر، حتي يذهب الناس لأعمالهم المقدسة، الأعمال هنا وحدها هي المقدسة، نعم في كل بلدة صغيرة عدة كنائس للمذاهب المختلفة ومعظمها مذاهب بروستانتية متعددة، وقد تجد أيضاً هنا أو هناك معبداً بوذياً أو يهودياً أو مسجداً إسلاميا، ولكن المقدس الحقيقي في أمريكا هو العمل، لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بمكتبه، ومعظم الأعمال في أمريكا تتضمن البيع والتسويق، وفن التسويق هو إبتكار أمريكي، لم يعرفه البشر من قبل بهذا الشكل وهذا القدر من التمكن والسيطرة، فالتسويق أمرٌ ضروري لكل نشاط سواء كان تجارياً أو ثقافياً أو إجتماعياً أو سياسياً أو دينياً، وبدون تسويق لا تقوم قائمة لأي شيء.

 

الثلج يهطل ما يزال، والشتاء - لمن كان مثلي عاشقاً للشمس - هو فصلٌ حزين، أتذكر فيه دائماً قول شاعر مصر الحزين صلاح عبد الصبور

 

يُنبئني شتاء هذا العام أنني أموت وحدي، ذات شتاء مثله، ذات شتاء

المزاج المصري المعروف عنه حب المرح والسهر والنكتة هو في الحقيقة مزاج حزين، لأنه مزاج عاطفي، والعاطفة ينتهي بها الأمر إلي الحزن، فحياة الإنسان تنتهي نهاية حزينة يعرفها الجميع ويراها الجميع ولا فرار لأحد منها، لذلك يظل الحزن الوجودي الكبير قابعاً في أعماق الإنسان الفرد، الذي يري في ما حوله، سواء كان الشتاء أو فصول العام الأخري، ما ينبئه بما أنبأ به صلاح عبد الصبور، أن الانسان يموت وحده ذات شتاء، فالإنسان يعرف أنه يموت وحده حتي لو كان وسط أهله وأحبابه، ويموت وحده حتي لو كان وسط الآلاف الذين يموتون حوله في حرب طاحنة أو كارثة طبيعية مدمرة، هو دائماً يموت وحده.

المزاج الأمريكي مزاج واقعي إلي أبعد الحدود، ولا يهرب الأمريكي من الواقع إلي الشعر أو الفن كبقية الشعوب، ولكن إلي واقع آخر، هو الرياضة أو المنافسة التجارية أو السياسية، أو إلي الحروب الخارجية ضد أعداء يصنعهم لكي يحاربهم، فمنذ وصول المهاجر الأوروبي إلي أمريكا وهو يحارب الأعداء الذين صنعهم في كل مكان.  

ونجد في التاريخ الأمريكي، الذي تحول إلي نفسية أمريكية وخيط إجتماعي عميق، صراعاً دائماً بين قوتين دافعتين، الأولي هي النزعة إلي الحرية الفردية شبه المطلقة التي تسندها القوة الفردية وقوة الدولة العنيقة من جيش وبوليس والأسلحة المادية والمعنوية الفارضة لها، والثانية هي النزعة إلي مجتمع العدالة والتكافل الإنساني والرحمة والإنسانية والقوانين الحامية لها، وهما قوتان متضادتان تعادل وتحاسب وتجمح كل منهما جماح الأخري، ولذلك ليس مستغرباً أن نجد في أمريكا حزبين أساسيين فقط يمثلان هاتين القوتين، هما الحزب الجمهوري الذي يروج لقيم الحرية الفردية والسوق الحرة والمنافسة والثروة والقوة الحربية وحق إمتلاك السلاح، والحزب الديمقراطي الذي يروج لقيم العدالة والتكافل الإجتماعي وحماية الضعيف والفقير المستهلك والبيئة من جور القوي المسيطرة المالكة للسلطة والثروة والسلاح.

الحرية والعدالة إذن هما جناح النظام الجمهوري السياسي والإجتماعي الأمريكي منذ البداية، وما يحمي هذا النظام، وهو أطول نظام ديمقراطي حاكم مستمر منذ نشأته وحتي اليوم، هو درجة عالية من الوعي بأهمية الحرية والعدالة معاً، مع وجود وإحترام مؤسسات مستقلة هامة تراقب وتحمي هاتين القيمتين الأساسيتين، وهي مؤسسات القضاء المستقل، والصحافة الحرة، وتضم الإعلام الحر، ألقائم علي مهنية عالية جداً تعززها جامعات تدرس أصول العمل الصحفي والإعلامي المستقل المحترم، مع وجود أجيال من المهاجرين القادمين من بلاد مختلفة، منها بلاد تحكم بشكل دكتاتوري، مما يجعل المهاجر يتمسك بما يجده في مجتمعه الأمريكي الجديد من قيم إستقلال القضاء وحرية الصحافة والغلام، رغم محاولات البعض في السلطة الحاكمة  التهجم والتعدي علي هذه المؤسسات التي يرون فيها تحدياً وتحديداً لقوتهم الرئاسية التي يريدونها مطلقة، ولكن إلي الآن فشلوا في ذلك.

وآخرهم محاولات الرئيس ترامب التهجم علي الصحافة التقليدية الحرة ذات التاريخ العريق في تحديها للسلطة الحاكمة مثل النيويورك تايمز والوشنجتون بوست، وهما الصحيفتان اللتان فضحتا الحكومات الأمريكية المتعاقبة في الستينات والسبعينات كاشفة كذب الحكومة بخصوص الحرب في فيتنام، وانحاز القضاء للصحيفتين فنشرتا أوراق البنتاجون السرية عن الحرب مما أجبر الحكومة علي إنهاء الحرب بعد عشرات الآلاف من الضحايا الأمريكان ومئات الآلاف من الضحايا من الفيتناميين.

ولذلك فأهم امنياتي للعام الجديد أن تبقي هذه المؤسسات الأمريكية المحترمة، من القضاء إلي الصحافة الحرة، مستقلة قوية حتي يمكنها مراقبة وفضح ما تقوم به الحكومات الأمريكية، لضمان بقاء توازن السلطات، وحتي لا تتحول أمريكا إلي جمهورية موز يحكم فيها رئيس طاغية بلا حسيب أو رقيب.

وكل عام وأمريكا ومصر والعالم بخير وسلام.