فرانسوا باسيلي يكتب: مصر لا تحتاج لأكبر فندق ومسجد وكنيسة

فرانسوا باسيلي يكتب: مصر لا تحتاج لأكبر فندق ومسجد وكنيسة
فرانسوا باسيلي يكتب: مصر لا تحتاج لأكبر فندق ومسجد وكنيسة

من عجائب ما يحدث في مصر اليوم ذلك الفخر والزهو ببناء أكبر فندق وأكبر مسجد وأكبر كنيسة في العاصمة الإدارية الجديدة المخطط لها شرق القاهرة، فكل من يعرف مصر جيداً ويعرف أحوالها في السنوات الأخيرة لا بد أن يعرف أن هذه الكبائر الثلاث هي آخر ما تحتاجه مصر اليوم،

فالفنادق تعمل بنصف حجراتها فقط، والمساجد موجودة في كل حارة وكل زاوية في مصر والدروشة الدينية وصلت إلي حد الهوس والمرض العضال، أما الكنائس التي تحتاجها مصر فهي الكنائس في القري الخالية منها حتي لا يضطر الأقباط اإلي الذهاب إلي المدن المجاورة علي بعد عشرات الأميال لتعميد أطفالهم والصلاة علي أمواتهم.

حكاية "أكبر" هذه تبدو أنها إهتمام بالفشخرة الفارغة وليس بالتنمية والنهضة الحقيقية.

شبه الدول تتبهرج بالحملات السياسية الشعبية، أما الدول  فتتقدم بالسياسات الوطنية العصرية. 

ما تحتاجه مصر فعلاً هو بناء أكبر مصنع، وأكبر مدرسة وجامعة، وأكبر مستشفي، مصر تحتاج اإلي تغيير مناهج التعليم، وليس إلي بناء أكبر دور عبادة في بلد هو من أكثر بلاد الأرض إنشغالاً زائداً بمظاهر وشعائر التدين علي حساب التعليم العصري والإسكان الآدمي والتصنيع الثقيل والخفيف لتشغيل العمالة ورفع مستوي المعيشة.

الإهتمام بناء أكبر فندق وأكبر مسجد وأكبر كنيسة يدل علي غياب الرؤية السليمة لنهضة حقيقية في مصر، والإستمرار في مظاهر "الهمبكة" والفرقعة الإعلامية بلا مردود إقتصادي أو إجتماعي أو ثقافي.

دروس من زمن مصر الذي ضاع

حين أنهيت مدرسة الروضة، في مدرسة السلام بشارع الجيوشي والترعة بشبرا، دخلت مدرسة رمسيس الإعدادية، وكانت جديدة تماما لأننا كنا نلعب ونحن أطفال في الأرض التي بنيت عليها وكانت أرض مزارع تطل علي شارع أحمد حلمي بجوار خط السكة الحديد من القاهرة إلي بنها والإسكندرية، وبنيت في نفس الوقت بجوارها مدرسة محمد فريد الثانوية، وحين انهيت الدراسة الإعدادية بمدرسة رمسيس دخلت التوفيقية الثانوية لأنها كانت أفضل مستوي من محمد فريد الثانوية،

 

المهم ما أريد قوله هنا هو أن رجال ثورة يوليو عرفوا في أوائل أيام ثورتهم أن التعليم أهم شيء لبناء مجتمع عصري جديد، وهو أحد أهداف الثورة، فبنوا المدرستين في مجاهل حي داخلي لخدمة الأجيال الصاعدة في ذلك الحي الشعبي، ومثل هذا بنوا مئات المدارس والجامعات الجديدة في أنحاء الجمهورية، كما بنوا في نفس المنطقة، في شارع أحمد حلمي المجاور للسكة الحديد، مئات الوحدات السكنية الجديدة، المسماة بالمساكن الشعبية، وكانت رخيصة، وهو ما منع من نشأة العشوائيات، التي لم نعرفها في مصر حتي هجرتي منها،

ولم تظهر العشوائيات سوي في بداية عهد مبارك، حين استقالت الدولة من ممارسة دورها في خدمة الشعب الكادح وراحت تخدم القطط السمان فقط، ثم دخلت أموال النفط من السعودية تحت سمع مبارك وبصره لتصرف علي بناء الإعداد الهائلة من المعاهد الأزهرية، وليس المدارس والمعاهد العامة لخدمة كل المواطنين، فبدأ الغزو الوهابي السلفي كالفيروس يغزو الجسد والعقل المصري من خارج مصر، بينما يعمل فيه الفيروس الإخواني من دخل مصر، ومبارك يجلس علي كرسيه كالجثة الهامدة يري تخريب مصر ولا يحاول حمايتها، حتي وصلنا إلي قاع الامم.

أقول قولي هذا لأوضح الفرق بين رؤية مصرية رأت في التعليم والثقافة والعلم والفن طريق نهضة مصر فعملت في كل هذه المجالات في الخمسينات والستينات فكانت هي أزهي عصور مصر الثقافية والفنية في كل المجالات، وبين رؤية، أو عمي بصر وبصيرة، سمحت للهوس الديني والمعاهد الأزهرية والبرامج الدينية التلفزيونية أن تكون هي البديل للتعليم والإبداع في مصر منذ السبعينات وحتي اليوم، فأعطتنا ثلاثة أجيال من العقول المحجبة والمنقبة والأكروبات الدينية المظهرية والفتاوي البدائية مع إنحطاط أخلاقي وثقافي وعلمي وفني وتعليمي واسكاني، وأصبحت العشوائيات والفكر العشوائي هي علامة المرحلة،

وقع تخريب مدمر للجسد والعقل والروح المصرية حتي وصلنا إلي وضعنا المزري اليوم.

والآن نري ذلك الاهتمام غير الواعي ببناء أكبر فندق وأكبر مسجد وأكبر كنيسة بعاصمة إدارية جديدة، وكأن مصر تحتاج هذه الأبنية الشاهقة التي لن يعمرها سوي العقليات القديمة المهووسة المختلة عقلياً ودينياً، لأن الإهتمام هو ببناء الحجر وليس بناء البشر.

من لا يتعلمون من دروس الماضي لابد سيكررون اخطائهم وخطاياهم المريرة القديمة.

…………………………………..

حكايات الدكتور مراد وهبة 

أحب وأقدر الدكتور مراد وهبة لتاريخه المشرف وفكره المستنير في مجتمع لا يبالي بالفكر ولا بالاستنارة. 

ومازلت علي محبتي وتقديري له  رغم أفكاره الغريبة التي قالها مؤخراً في مقابلة صحفية، لا عرف مدي دقتها، و التي إتهم فيها المثقفين في مصر بأنهم "خونة" مفترضاً أن كلهم يعارض الرئيس السيسي، إتهام الخيانة بهذا التعميم المدهش لا يصح أن يصدر من مفكر أستاذ فلسفة، ولكن حين تحب إنساناً لتاريخه المشرف لابد أن تغفر له هفواته.

يقول د. مراد وهبة، إن العلمانية هي أن تفكر في المطلق بالمطلق وفي النسبي بالنسبي.

هو تعريف يحتاج شرح، أفهم قصده ولكن من واجب المفكر أيضاً أن يقدم الفكر في أسلوب يمكن فهمه من الجميع.

أما أجمل وأظرف ما أتذكر انني سمعت منه هو قصته عن زيارته لقرية بعد تخرجه من قسم الفلسفة مباشرة، في العهد الملكي، وكان يتطلع بأمل الشباب إلي دوره كأستاذ فلسفة وكيف سيقوم بلعب دور في نشر أهمية الفلسفة في مصر.

يقول أنه كان مع مجموعة من "الأفندية" في زيارة القرية، وكان أن خرج أولاد القرية كعادتهم يلتفون حول شلة الأفندية الغرباء يزفونهم بالصياح والتريقة والسباب والرقص، فنهرهم رجال القرية وجاء أحدهم يعتذر للوفد قائلاً، متأسفين يا فندية، أصل العيال دي مش متربية، ما يعرفوش غير قلة الأدب والفلسفة.

وعرف د. مراد من وقتها أن أمامه مهمة شاقة جداً في مصر كأستاذ للفلسفة.

…………………………..

الكاهن الشهيد أبونا سمعان شحاتة 


بعد يومين فقط من إغتيال أبينا الشهيد سمعان شحاتة علي يد إرهابي داعشي مصري ذهبت إلي موقع اليوم السابع، أحد أكبر المواقع الإخبارية في مصر، ولم أجد شيئاً عن الكاهن الذي اغتالته يد الكراهية والحقد الطائفي من يومين فقط، لا خبر، لا تصريح من الرئيس أو الرئاسة، لا تصريح من البابا، ولا من رئيس وزراء، ولا من وزير، لا خبر عن تطور التحقيق، لا خبر عن الأسباب، عن الملابسات، عما ستفعل مصر لمنع تكرار الجريمة، بينما لا حديث للأقباط خاصة وللمصريين المخلصين للوطن عامة في مواقع التواصل الإجتماعي سوي عن هذا الحدث الإجرامي البشع، فهل أفضل طريقة لمواجهة السرطان هي عدم التحدث عنه؟ 

صمتٌ مخجل لشبه الدولة التي أصبحت شبه لا دولة. 

هل هذا أسلوب مواجهة الأزمات؟ هذه قضية أمن قومي وليس مجرد جريمة بشعة في حارة، هذه قضية تتطلب موقفاً علي مستوي المسؤولية، وليس الصمت المزري والتواري المخجل.

 

 قالوا، كالعادة القبيحة، أن المجرم الداعشي مختل عقلياً.

هل يقصدون الفرد؟ أم يقصدون المجتمع  الذي تركوه يتجرع سموم دعاة التكفير والتهجير  منذ السبعينات؟

نعم هو إختلال عقلي، لكنه ليس فردياً، بل جماعياً

إختلال عقلي إسمه الجهل، وحالة نفسية مريضة سوداوية حقودة وبدائية تعرف بالسلفية الوهابية، تركوها تنتشر كالسرطان في جسد مصر سنوات وسنوات، وتسعي إلي أن تنهش روح مصر لكي تقضي علي كل أمل في تقدم أو حتي بقاء.


فلنتذكر أن في مذبحة قرية الكشح عام 2000 والتي ذبحوا فيها عشرين من الأقباط طوال يومين وليلة دون تدخل من الأمن، جاء الحكم علي قاتل واحد فقط وبتهمة حيازة سلاح غير مرخص وليس بتهمة القتل.

عندما تتستر دولة ونظام، منذ السادات وإلي اليوم، علي قتلة الأقباط بعدم معاقبة القتلة عقاباً رادعاً، فهي تقول أن قتل الأقباط مسموح به في نظامنا، ولا تفسير غير هذا.

وهل يستطيع الشعر أن يعبر عن مأساة مصر المتفاقمة في نصف قرن؟

 

يا مِصْرُ كَمْ يَكْفِيك مِنْ هَذِي الْقَرَابِين

هذا هو جسدي 

وها هي الطعنات 

تعدو بوجه الأرض كالوحش الملطخ بالعويل 

دَمّ الآيات

مسكوبٌ عَلَى السّموَات

يَصْبِغُهَا وَيَقْطُرُ مِنْ يَدي 

أَمِنْ سورٍ مِنَ الْقُرْآنِ هَذَا النّزفُ فِي جَسَدَيْ 

أَمْ الْإِنْجيل ؟ 

وَبِأَيِّ كَفٍّ أَمْسَحُ الصَّرْخَات 

عَنْ روحٍ مرفرفةٍ 

صَعدت لِبَارِيِهَا

لِتَشْكُو مَا أَتَاهُ شَقِيقُهَا قابِيل 

أَأُكَفْكِفُ الدَّمْعَاتِ عَنْ أَشِجَارِ هَذِي الْأَرْض 

أَمْ أَحْجَارِهَا ؟ 

وَبِأَيِّ مَنْدِيل 

- فرانسوا باسيلي