رجل الدين الجاهل بالعلوم والتعليم ... التفكير النقدي يحل محل الحفظ والتلقين بهجت العبيدي

رجل الدين الجاهل بالعلوم والتعليم ... التفكير النقدي يحل محل الحفظ والتلقين بهجت العبيدي
رجل الدين الجاهل بالعلوم والتعليم ... التفكير النقدي يحل محل الحفظ والتلقين بهجت العبيدي
إن التعليم مهمة شاقة، وعمل ممنهج، يلزمه توافر العديد من العناصر، ولأهميته توقف عنده كل الفلاسفة، وأغلب المثقفين، ولقد أتى له الشاعر الإنجليزي الشهير " جون مليتون"، الذي مارس، في دوره الإصلاحي، مهنة التعليم، نقول أتى " مليتون " للتعليم بتعريف قوي رائع : "أقول أن التعليم التام الواسع هو الذي يعد الإنسان لينهض، بحق ومهارة ورحابة صدر، بكل مهامه الخاصة والعامة في السلم والحرب، سواء بسواء" وأول واجب على المعلم، والكلام مازال للشاعر الإنجليزي الكبير، هو أن يغرس الخلق القويم في نفس التلميذ، وأن يعيد تكييف الخلق القومي تبعا لمتطلبات حياة المدنية حاليا.
والعملية التعليمية بمفهومها الشامل يجب أن تتشارك فيها العديد من المؤسسات: ليس أولها مؤسسة الأسرة كما ليس آخرها مؤسسة المدرسة، إذ يجب أن تتشارك فيها وبكل فاعلية مؤسسات الإعلام والثقافة والرياضة وكذلك المؤسسة الدينية، على أن تتعاون جميع هذه المؤسسات بشكل هرموني لإعداد النشء وتحقيق الأهداف التي يجب أن تحددها الدولة لشكل المنتج التعليمي الذي تسعى للحصول عليه.
نقول يجب أن تتشارك المؤسسات المعنية في العملية التعليمية؛ فليس معقولا أن تتبنى مؤسسة المنهج العلمي والبحثي الرصين المتعارف عليه في كل دول العالم، وأن تنشر مؤسسة أخرى الخرافة وتغرسها في نفوس أبناء المجتمع لتصبح عقيدة وإيمانا لا يستطيع المرء، مهما تحصل على شهادات علمية، منها فكاكا عبر تاريخ حياته الممتد، ولعل أوضح مثال على ذلك ما يؤمن به البعض، وهو إيمان مبني على فهم ديني، بأن الأرض مسطحة، ويجادل في ذلك جدلا مستميتا لإثبات ما يعتقد فيه!.
إن ما تغرسه المدرسة، إن تم بطريقة علمية صحيحة، وهو غير المتوفر في مدارسنا المصرية حتى اللحظة، وذلك ناتج لأن المنوط به العملية التعليمية من الأساس يسلك تفكيرا خرافيا، فإذا علمنا أن هناك في مدارسنا من يذكر للتلاميذ ويناقش زملاءه أو مرؤوسيه من المدرسين أن الأرض مسطحة ضاربا بعرض الحائط النظريات العلمية المثبتة في الكتب التعليمية فإننا ندرك حجم الخطورة على العقل المصري والإنسان المصري ومستقبل الوطن المصري عموما.
نقول إن ما تغرسه المدرسة، على ندرته، في نفوس الأبناء من مبادئ علمية يمكن لرجل دين جاهل بالعلم الصلب أن يحطمه تحطيما بكلمة يلقيها هنا أو هناك، ويمكن للإعلام إن لم يتوافق مع منظومة التعليم، وهو للأسف ما يحدث الآن، أن يضرب كافة جهود العملية التعليمية في مقتل، ويمكن لنشاطات وزارة الثقافة إن لم تراع الأهداف التي يجب أن تعلنها الدولة للمستهدف من العملية التعليمية أن تذري هذه الجهود المبذولة، إن بُذِلتْ حقا، أدراج الرياح، كما يمكن نتيجة للاستهانة بدور الرياضة في تكوين الشخصية أن نخلق إنسانا غير قادر على أداء المهام التي نسعى إلى تأهيله لها. 
إن من أهم مهام التعليم هو خلق إنسان قادر على التمييز بين الخطأ والصواب وبين النافع والضار وصناعة إنسان يستطيع أن يقارن بين المطروح عليه مقارنة موضوعية تقود للاختيار الصحيح والقرار الصواب، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال بناء عقل نقدي ومغادرة أسلوب الحفظ والتلقين الذي لم يعد للمتميز فيه أدنى فرصة في عالم اليوم، فإن كان في الماضي: القريب منه والبعيد يتم تقييم المتعلم بالقدرات على الحفظ، وهو ما نلمحه في تلك الصفة الشهيرة التي تطلق في معرض المدح عن "علماء" الماضي - أرجو ملاحظة أن كلمة علماء هنا وضعناها بين قوسين - حينما يتم وصفهم بالحافظ، حيث كان لهذه الملكة مكانة في العصور البدائية ولم يعد لها من أي قيمة في عالم اليوم حيث يستطيع أي إنسان الاحتفاظ بكم معلومات هائل لم يكن لأعظم العقول في الماضي حفظ واحد في المئة منه وذلك عن طريق تخزين تلك المعلومات على شريحة لا يتعدى حجمها سنتيمتر مربع واحد! إذن فهذا الاستظهار الذي كان يتباهى به القدماء والذي كان دليل النبوغ لم يعد له أي قيمة في عالم اليوم الذي يعتمد فيه على الفهم العقلي والتفكير النقدي والابتكار من خلال منهج بحثي علمي معتمد.
وما من شك في أن دور الأمم لا يمكن أن يقاس إلا بما تقدمه هذه الأمم للإنسانية من إسهامات حضارية وعلمية، وبدون هذه الإسهامات لا يمكن أن تُقَدَّم هذه الأمة أو تلك باعتبارها فاعلة في عالم اليوم، ذلك الذي أخص ما يميزه هو العلم، هذا الذي لا يمكن أن تبرع فيه دولة أو أمة إلا إذا أخذت بأسبابه والتي يأتي في مقدمتها المنهج العلمي، والاهتمام الفائق بالتعليم وبالبحث العلمي، وذلك من خلال توفير بيئة علمية مناسبة، تلك  التي لن تتحقق إلا في حال اتخذت الدول والأمم التعليم والبحث العلمي مشروعا قوميا، وتجعلهما في أولويات اهتمامها، وتنفق عليهما الإنفاق المناسب، ليصبحا على رأس قائمة الإنفاق ويأتي بعدهما كل شيء مهما كان له من أهمية، فلا أهمية تسبق أهمية التعليم، ولا أولوية تسبق أولوية البحث العلمي، هذا إن كان لدى هذه الدولة أو تلك الأمة نية حقيقية للحاق بعالم اليوم  والمساهمة بسهم حقيقي في الحضارة الإنسانية الحديثة والتي نؤكد أنها حضارة علمية وتكنولوجية بامتياز، يدرك ذلك كل من يعيش العصر الحالي، أما هؤلاء الذين يحيون في عصور مضت وأزمان انقضت فهم في غيبوبة لن يفيقوا منها إلا لو أرَّقهم وأرهق تفكيرهم المفكرون والمثقفون الذين هم طليعة كل أمة.