عمرو الزيات يكتب : سيميائية الرمز في قصة (دربكة فارغة) لعبد الأمير الماجدي

عمرو الزيات يكتب : سيميائية الرمز في قصة (دربكة فارغة) لعبد الأمير الماجدي
عمرو الزيات يكتب : سيميائية الرمز في قصة (دربكة فارغة) لعبد الأمير الماجدي

 
      يعتبر الرمز الملاذ الذي يلجأ إليه الأديب في عصرنا، ينفث من خلاله ما يعتمل في نفسه من آلام وآمال، وللرمز قيمة فنية وجمالية يشعر بها المتلقي حين يفك تلك الشفرات؛ لينفذ إلى أعماق المبدع والنص. وفي رأينا أن العملية الإبداعية لا تؤتي ثمارها المرجوة من المتعة الفنية، وترسيخ القيم الهادفة إلا إذا صاحبها جهدٌ من الطرفين: المبدع والمتلقي معًا، وقد يقول قائل: المبدع يبذل جهدًا ليخرج عمله كما يريد.. هذا معلوم، ففيمَ يبذل المتلقي الجهد؟!
       اعلم أيها القارئ الحبيب، أنك لن تشعر بالمتعة الفنية، ولن يفضي إليك النص بأسراره ما لم تمنحه التأمل وحسن المعاشرة، ونعني بحسن معاشرة النص أنها نوع من التعاطف مع النص ومبدعه، وما المانع إن أعطيتَه من وقتك القليل، ومن جهدك اليسير الذي لا يقاس بما يبذله الأديب في إبداعه؟ وصدق أستاذنا المازني حين قال عن الحالة الإبداعية أو حالة الكتابة وولادة العمل الإبداعي: أبذل( في الكتابة) من جسمي ونفسى، ومن يومي وأمسى، ومن عقلي وحسى، وأقدمه لك.
      ويذكر شيخ العربية الأستاذ الدكتور سعد مصلوح عن أهمية الرمز وقيمته: " قيل الكثير جداً عن أهمية الترميز في الإبداع. ومما قيل إن المبدع الحقيقي، المبدع الكبير، هو ذلك الذي يستطيع أن يغلّف رؤاه ويجعل القارئ المتمرس يشعر باللذة والإثارة وهو يختطف المخفي من النص الأدبي، ولن يستطيع المبدع ذلك إلاَّ من خلال استخدام الرموز، التي من شأنها أن تحرر لغته من سطوة المعنى الخارجي، وأن تمنحه بُعداً يبدو للبعض خفياً وللبعض الآخر جلياً. وهذا البعد يتمثل في الرمز الذي لم يصل الإبداع إليه إلاَّ بعد تأمل طويل ووقفة مع الأعمال الإبداعية العظيمة، بتجلياتها وما تحمله من أبعاد وتأويلات."
       والأديب الحق هو من يحمل رؤيته للعالم بحكم انتمائه الثقافي وموقفه الفكري، وتلك الرؤية يكون لها الأثر في تحديد أنواع التقنيات التي يلجأ إليها الكاتب في إبداعه؛ لذلك نجد الماجدي في (دربكة فارغة) قد آثر استخدام تلك الرموز ببراعته المعهودة شعرا ونثرا. إن وصف الدربكة بالفارغة جمعٌ بين متناقضات يعيشها واقعنا العربي، فحين توحي كلمة دربكة بالزحام والصخب فإن وصفها بالفارغة يشي بعدم قيمتها وأثرها، ولا تفارق كاتبنا روح التحدي التي تميّزه؛ يخرج لسانه ساخرا من كلّ مفتعلي تلك الجعجعة والدربكة الفارغة، ولسان حاله يقول لهؤلاء جميعا: إن وطننا باقٍ وهو أكبر من محاولاتكم المستميتة.
      لذلك يجعل عبد الأمير الماجدي من استخدام (ضمير المتكلم ) قاعدة يرتكز عليها؛ لأنه وسيلة ينقل الكاتب بها مشاعره وأحاسيسه للعالم من حوله، إن استخدام ضمير المتكلم سلاح ذو حدين، قد يوقع القاص في خطأ التدخل في الأحداث؛ بيد أنه - هنا - قد أفلت من ذلك حين اكتفى أن يكون راويا للأحداث المتلاحقة التي جعلتنا نفغر أفواهنا ترقبا وإعجابا حتى نهاية  قصته.
      تعددت الرموز وتكاتفت؛ لتكوّن تلك اللوحة البديعة، (الأب) جسر البيت وعماده يحمل الهمّ حملا ثقيلا، قليل الكلام (أومأ لأمي برأسه) بيد أنه – على قلة كلامه – عظيم الأثر يقدّم النصائح والتوجيهات، لا يفوته القيام بدوره من رعاية بيته وأسرته (قبل أن يصل إلى بابها استدار إليّ قائلا: اخفض من صوت التلفاز ولا تسهر كثيرا)، وإذا أمعنت النظر - أيها القارئ - بين السطور وخلف الحروف علمت أن (الأب) رمز للوطن الذي أضناه ما رآه وما يواجهه من (دربكة فارغة)، وتظل قرون مضت من حضارة علّمت الدنيا بأسرها تزدحم في ذاكرته (يفكر بعقل معطوب يحاول شدّ بقايا ذاكرته المهترئة ككيس ممزق ينضح ما بداخله من كل اتجاه) وهذا الأب ماضينا العريق بكل ما يحمله من مقومات التاريخ والحضارة، وسيظل مصدر فخرنا نحن العرب.
     لكن الأب (الوطن ) يسلّم الراية لبطلنا (الراوي) ويوجه له كلامه؛ فهو الجيل الجديد (الحاضر) تقع عليه مهمة بناء الأوطان وحمل ميراثها التليد، ولم يكن بطلنا بأقل شأنا من سلفه؛ فقد أتقن الدروس، ووعى توجيهات الأب؛ بيد أن حماسه الشديد ونزوعه للتضحية جعلاه يسقط  (وانشقت شفتي وتورمت عيني) شفته وعينه مما يرى ويتحدث وكأنه يريد أن يقول: إن عينه يؤلمها ما تراه بأرضه، وشفته انشقت من كثرة الكلام الذي لا يُسمع وكأنه ينادي أمواتا، وأنى له أن يُسمع مَن في القبور؟! يحذر أبناء وطنه مما يُدبر لهم من مكائد وما يتربص بهم من مخاطر.
        (الأم) مصدر الدفء ورمز الحضارة والعلم (تخرج أمي بهيئتها المعروفة، تغطي بعضا من شعرها الأشيب بخرقة سوداء: "ما بكم؟" تتمتم وهي تمشي بخطى واثقة، تصعد السلالم) هيئتها معروفة للجميع تصرخ في أبنائها (أبناء الوطن) ما بكم؟! تتقدم، تصعد السلالم، وهي إشارة لاذعة من الماجدي؛ حيث يرى أن سبب تمزقنا هو إغفالنا لماضينا وحضارتنا، ثم تأتي (الأخت) شريكة بطلنا في بناء الوطن وهي رمز لكل أنثى تعمل من أجل وطنها يدا بيد مع أخيها البطل (تجلس أختي قبالتي على الأرض تمسك إبرة تخيط ثوب أبي المتهالك ) إنها تحاول تدارك الموقف حين تلملم ما تمزق من ثياب الوطن (الأب) وبطلنا ينظر إليها بعد أن ألقى بجثته التي هدّها ما يحمله من إرث عتيق، وهو – لا شك – حمل تنوء به العصبة أولى القوة ، وهو تعبير قرآني أحسن كاتبنا توظيفه، أما (الأخ الأصغر) فأراد به الناشئة والأجيال القادمة ورمز للمستقبل، يمسك كتابا يريد فكّ طلاسم وضعنا الراهن (مسألة رياضية صعبت عليه لم أتمكن من حلّها أيضا) بيد أن المسألة تصعب على بطلنا (الحاضر) أيضا؛ ولعلّ تلك المسألة  جعلت بطلنا غارقا في أمواج الفكر بحثا عن مخرج لواقع أمتنا المرير(كانت الخيارات تضعني على حبل يتأرجح متمايلا  دفعني بأوهامي إلى مسافة بعيدة).
     ثمّ يجئ هذا الرمز العجيب الذي يوحي بالهياج (الثور) صاحب الدربكة الفارغة والجعجعة التي تملأ أرجاء الدار (الوطن) محاولا فرض نفسه ضيفا ثقيلا بعد أن سمح لنفسه تجاوز حدوده من غير إذن مسبق) إنه عدو الوطن والأمة والحضارة، وهو مفتعل الدربكة والضوضاء لا ينفك يزعجنا؛ لكنه يظل دوما وأبدا ضيفا ثقيلا  يحاول جاهدا تجاوز حدوده غيرَ مرحب به في بلادنا.
أجاد كاتبنا استخدام تقنية الترميز ساخرا من عدو وطنه حينا، ومتحديا له حينا، ومتألما من واقعه المرير في معظم الأحايين، يبرهن أن الإبداع الجيد مرآة المجتمع، وأن مهمة المبدع الحقّ تسليط عدسته المكبّرة على قضايا مجتمعه، فما أصقلها من مرآةٍ! وما أشرفها مهمةً!