أصـابع العَــــــوز قصـة: مراد ناجح عزيز

أصـابع العَــــــوز قصـة: مراد ناجح عزيز
أصـابع العَــــــوز قصـة: مراد ناجح عزيز
 
 
تحت ضغط ..
إلحاحها الشّديد ومعسول كلماتها الناعمة أحيانًا والتي تَجيدها ببراعة أو كما يُقال: (تعرف من أين تؤكل الكتف) واللّاذعة أحيان أخرى, تفككت قسمات وجهه الغاضبة وقد أبدى موافقته المبدئيّة على التّقدم لشغل وظيفة ما في احد الشّركات الخاصة, ربّما كان ذلك سببًا لمضاعفة دَخله الزهيد من عمله الحالي, وإعادة ما كان بينهما من حياة هادئة. 
بوجهها الصّبوح أشرقت فتاتهما الصّغيرة بعد قسط من نومها, كان من شأن وجودها تهدئة الموقف دون أن تتصاعد أبخرة من فوّهات كلماتهم المحتبسة ضيقًا, مداعِبة راحت زوجته تقرأ من كتاب في يدها, بينما هي جالسة أمام شاشة التلفاز كأنّما توجه كلماتها لطفلتها الصّغيرة: أي الأمثال يتّفق مع مقولة لا تستطيع بمفردك فعل كل شيء؟ بعفويّة الأطفال قالت ابنتها:(القفّه اللي ليها ودنين يشيلوها اتنين)
راح بدوره يرفع حاجبيه أعلى عدسات نظّارته, متخابثًا ينظر اليهما دون إشارة منه لرد فعل كان من شأنه تغيير مسار الحديث أو مشاركته لهم. 
سنوات من العمل الدءوب جعلته أكثر إلتزامًا وحرصًا على المواعيد, فكان أوّل الحاضرين إلى مقر الشّركة, متأبّطًا حقيبة سوداء, انتفخت بطنها لكثرة ما تحتويه من أوراق, وكتاب يأنس به حال ما إذا اشتد به الملل انتظارًا, لا سيّما وقد استعد هو الأخر سلفًا دون علم زوجته للتقدّم لنفس الوظيفة, وقد أضمر في نفسه تراجعًا عمّا إتّفقا عليه ولم يُخبرها بأن اليوم هو الأخير لتقديم الأوراق وإجراء المُقابلة, وأنّه فقط كان واجبًا عليها أن تُتقن فن ترشيد الإنفاق ضد موجات الغلاء المستمرّة, والتّنازل قليلًا عن بعض احتياجاتها الغير ضروريّة من وجهة نظره.
( صباح الخير يافندم) تحيّة تتصاعد تدريجيًّا من شخص لآخر, خطوات واثقة تقطع طريقها إلى حُجرة لا تفارقها العيون حتّى إغلاق بابها, نعم يبدو انه صاحب الشّركة, تصاحبه رائحة باريسيّة النكهة, بمجرّد سماع دوي الجرس, يتعجّل السّاعي يحمل قهوته الصّباحيّة بعد أن اطمئن على نظافة هيئته ولمعة حِذائه.
ثمة سكرتيرة ممتلئة القوام, طاغية الأنوثة, تحاصرها النظرات تباعًا كلّما تحرّكت يمينًا أو يسارًا في محاولة منها على ما يبدو تخفيف حِدّة الانتظار أو هو عطش البعض منّا لابتزاز عواطفه الكامنة تحت أغطية من الجري ليل نهار بحثًا عن لقمة العيش.
بدأ العد التنازلي للدخول تِباعًا, راح يقلِّب بعض أوراقه للتأكّد من سلامتها, مكتفيًا بعمل بعض المكالمات الهاتفيّة لاعتقاده بأهميّتها في هذا التوقيت, تفكيكًا لاحتمال انتظاره لمدّة أطول, قاطعه صوت السكرتيرة الحسناء بندائها الذي يشبه أنغام الموسيقى في نهار ربيعي:( اتفضّل يافندم).
خطوات قليلة كانت كفيلة بين يدي صاحب الشّركة, قابضًا ما بين إصبعيه نوع فاخر من السّجائر, عاليًا تسمع صوت أنفاسك, إضاءة تفكّك عزيمة الغريب بدخول مدينة لا يعرف احد فيها, تدريجيًّا فارقني ذلك الشّعور بعد حِوار بسيط تخلله بعض الكلمات الرقيقة متسائلًا عن سبب التقدم للوظيفة, واكتمال الأوراق المطلوبة, ثم أردف قائلًا: موفّق إن شاء الله.
 تركت ملف أوراقي أمامه مُنصرفًا تحملني قدماي خارج المكتب دون إشارة منه بالقبول أو الرفض, هي مجرّد محاولة لا أكثر, كلمات ربّما هي تُهادن رغبتي حال لم يُحالفني الحظ في الحصول على الوظيفة, إلا أنّها في حقيقة الأمر كانت ضمادة على جرح طالما ظل يُدمي حياتنا كلّما امتدّت إليه أصابع العَوز.
ابتسامة رقيقة ربّما تخبئ بين طيّاتها رغبة في شيء ما, حتّى وجدتها طوّقتني بذراعيها دون خجل أمام ابنتها الصّغيرة, الأمر الذي لم تعتاد عليه أو كان من طبيعتها استحضار تلك اللحظات الرّومانسيّة إلا فيما ندر, أفصحت عن سر ابتسامتها سريعًا وقالت: إن رسالة من الشّركة أخبرتها بقبولها للوظيفة, لم أتمالك نفسي ضَحِكًا وأنا أخبرها أن تقديم الأوراق كان يتطلّب الحضور وإجراء المقابلة وهذا لم يحدث, حاولت تأكيد كلماتي لها وأنا أفتش عن أوراقها داخل حقيبتي كما أكّدت لها, لأجدني وأنا في لُجّة اندهاشي, خطأً قدّمت مَلف أوراقها, لتعجّلي في الخروج كمن ضاقت أنفاسه وأراد أن يتحرر, فأطلق لقدميه عنان الطّريق.
سرعان ما تَحوّل عِناقها هجرًا وقد تراجعت لمسافة تسمح لها بالتأكّد من صحّة ما أقول, أو ربّما هي إحدى مُداعباته لها, إلّا أنّها وبعد تأكّدها من صدق كلماته, لم يثنها ما حدث ولم يكمّم هدير انفجارها ضحِكًا, ومواصلة الغِناء والرّقص على أنغام موسيقى تسمع لها وحدها.