المدقريّ معرض الكتاب: خيوط الذكريات (٤) بقلم د. علي زين العابدين الحسيني

المدقريّ معرض الكتاب: خيوط الذكريات (٤) بقلم د. علي زين العابدين الحسيني
المدقريّ معرض الكتاب: خيوط الذكريات (٤) بقلم د. علي زين العابدين الحسيني
 
 
يتناغم عطر الورق والحبر في أركان معرض القاهرة الدولي للكتاب ليخلق سحراً لا يضاهى، تتسلل رائحة الكتب إلى الأنوف، كأنّها ينابيع مياه عذبة تفجرت في جنبات المعرض، فالكتب ليست مجرد صفحات مطبوعة، بل هي محطات سفر تنقلنا إلى عوالم لم نكن نعلم بوجودها، تتناثر الكتب على الأرفف كالنجوم في السماء؛ لتعيدنا للعوالم المختلفة والحيوات الكثيرة؛ بلغات متعددة ومفاهيم متجددة.
وإذا صدمت بفقري في اختيار المواضيع سارعتُ إلى تلك الذكريات مع قلمي وأوراقي لأسجل الجواهر العجيبة والكنوز الدفينة! 
في غمرة الأفكار والكتب كانت زياراتي المتعددة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب تجارب ذاتية لا تنسى، اندمجتْ وسط أروقة المعرض الضخمة ذاكرتي الطلابية مع عبق الثقافة، أعرف أناساً يقرؤون بعقولهم لا بعيونهم. ليس في مقدوري أن أعرف الشخوص معرفة كافية، لكن الكتب تعطيني غالباً تلك الخواطر الكاشفة عن النفوس.
يلتقي الزائرون بمغامرات مختلفة أمام كلّ جناح، تتناثر الكتب الأدبية كمرايا تعكس تنوع المناهج والأساليب، فتتجول العيون بين صفحات الأدب والفنون، وتتراقص الأفكار كالورقات الخريفية بين ثنايا السطور، وتبعثر الكتب على المناضد أوراقها كمرايا تعكس اهتمامات متنوعة، فالشعر يجاور النثر، والتاريخ يلتقي بالواقع، والحاضر يتشابك مع الماضي، تتلاعب الكتب بالمكان والزمن، تسافر بالقراء إلى عوالم مجهولة، وتكشف لهم أسراراً لم يكن يعلموها.
بدأت رحلتي بالتجوال بين أرفف الكتب المتنوعة، وكأني أغوص في بحر من الثقافات المحلية والدولية، فلم يكن المعرض مجرد مكان للتسوق الكتبي، بل كان احتفالية سنوية حية تعزز الفضاء الثقافي للراغبين، وتجدد بقاء الثقافة في نفوس عاشقيها.
توقفت أمام جناحٍ للكتب التراثية، اخترتُ مجموعة من الأعمال التي أثرت في رؤيتي الثقافية، لقد أضافت لي كتب اللغة العربية الأصيلة والبيان العالي أفقًا جديدًا في جودة الأساليب واختيار الألفاظ، وأشعلت شغفي بالتعلم والتركيز على عمق المعاني، لم يكن كل شيء عن الكتب التراثية، ففي ركنٍ آخر من المعرض اكتشفت عوالم الأدب الحديث وكتاباته الجديدة لأدباء القرن الماضي، تخللت الصفحات خيوطًا من السرد الأدبي الرفيع، مأخوذًا في رحلة لا تعرف الزمان، ولا تقف عند المكان.
وفي ركن العلوم تبدو المعرفة بألوانها المتعددة، فتتنافس الكتب العلمية على استقطاب الأذهان حتى تشعل شرارة الاستكشاف، ويتجول الباحثون بين صفحاتها؛ ليستنشقوا عبق التفكير والاستكشاف، وأما في غرفة الخط والتلوين فتتناغم لوحات الخط الملونة لتصنع لوحة فنية من التنوع الثقافي، تعتلي الخطوط المختلفة قمة الرفوف، وبجوارها تستقر بعض الأعمال الفنية التي تعكس قضايا الحياة.
أمام زوايا المكتبات المشاركة يلتقي القرّاء بكتّابهم المفضلين، يوقعون الكتب، ويتبادلون الأحاديث حول عوالمهم الأدبية؛ فتتلاقى القلوب بين الكلمات والسطور؛ لتنشأ صداقات جديدة على ضفاف الورق، ذهبت إلى جلسة توقيع كتاب لصديق، شاركت الحديث معه حول أفكاره المطروحة وتجاربه الأدبية، كانت هذه اللحظات تعكس روح المعرض، حيث يتلاقى الجميع بأصحاب الأفكار.
في القاعات المخصصة للشعراء يتسلل شعرهم إلى مساحة خاصة، فيستمع القلب إلى أنغام كلماته الرنانة. وفي كل ركن من أركانه هناك مكان للمعرفة والتفكير، حيث تتداخل الأفكار وتتشابك الخيوط الخفية للفهم العميق، ولو قدر لي أن أمتلك زمام الوقت ثانية لحضرت كل ندواته.
وفي أوقات الهدوء يجتمع الرواد حول المطاعم والمقاهي ليشكلوا جماعة من أرباب الطريقة الروحانية، يتبادلون الأفكار، يستمتعون بسحر العالم الورقي بين أيديهم، وتتراقص الكتب كأوراق الخريف في محادثات متداخلة، تمنح المكان والزمان رونقاً خاصاً وجمالًا ساحراً.
ينساب الغسق بخجل بين الأروقة، ويتساقط لون الغروب كقطع ذهبية، لتبدأ رحلة الرجوع إلى البيت بكتب المعرض بأناقة تحمل بين صفحاتها عوالم كثيرة. ففي نهاية يوم مليء بالكتب والجهد المبذول يخرج الزوار من الباب الرئيسي بالآمال، يحملون في قلوبهم تلك الذكريات الجميلة التي تكونت في لحظات صامتة، معترفين بأن المعرض ليس مجرد مكان لشراء الكتب والمجلات، بل هو محطة تجديد الأفكار، واكتساب العلم، واكتشاف الثقافات. وليس لي أن أعتقد أنه من بين المساوئ التي سببتها الغربة لي هو البعد عن معارض القاهرة للكتاب لسنوات عديدة، ذلك أني استبدلت معرض القاهرة بمعرض الرياض الدولي، وفي كلٍ خيرٌ!
أنا لا أحمل أكياساً ثقيلة بيديّ، بل أحمل أحلاماً جديدة تتسلل إلى مكتبتي المنزلية، تتراقص الكتب الجديدة على رفوف الخشب، تسرد لجالسيها قصصًا تنوعت مواضيعها؛ كنجوم في سماء الليل. كل من ينشد واقعاً معرفياً وارتباطاً وثيقاً بالمثقفين ينبغي أن يكرس أيامه ولياليه للاتصال بهم في أيام المعرض ولياليه!
وفي البيت تتفتح الكتب كوردة في حديقة نضرة، تروي لنا حكايات ملونة على لسان كتّاب، وتنساب الكلمات كأنها موسيقى تهز الروح وتستقر في القلب. كلما عادت عيناي لصفحات الكتب يتسلل السكون إلى القلب، والأمن النفسي إلى البدن، يبدأ الزمن بالتباطؤ، وتقودني الكتب إلى رحلة هادئة في عوالم الخيال والمعرفة. هكذا، تعود الكتب إلى بيتي، لتضيء أمسياتي وتكون رفيقة لي في اللحظات الهادئة، محملة بأحلامٍ وتطلعاتٍ جديدة.
وأنا أغادر المعرض حملتُ معي ذكريات لا تُنسى. كانت هذه تجربة أعقبتها تجارب لسنوات متتالية في معرض القاهرة الدولي للكتاب، عززت إيماني بقوة الكتاب والاتصال المباشر بأولياء الثقافة وتأثير ذلك في حياة الناشئة والمتأدبين.
وفي أركان المنزل عانقت الكتب جدرانه، كأنها لغة تنطق بصمت تفاصيل حكايات لا تنتهي، ازدانت الرفوف بأنواع مختلفة من الكتب، تلك الصفوف اللامعة بالسير الذاتية والمذكرات الشخصية تحكي قصصاً متنوعة عن الزمن ورجاله. في منزلي ليست الكتب مجرد أدوات قراءة، بل هي الأصحاب الذين يمنحون لحياتي طعمًا آخر من الرقي والأمن النفسي، فيظل الجو المعرفي يغمر المكان بسحره وريادته، كلّ صفحة من صفحات كتبي تفتح بوابة لصفحة جديدة من صفحات الثقافة.