هدى حجاجى أحمد تكتب: نهر العسل (الجزء الثاني)

هدى حجاجى أحمد تكتب: نهر العسل (الجزء الثاني)
هدى حجاجى أحمد تكتب: نهر العسل (الجزء الثاني)

ماذا ...... تريد أنْ تفلسف أحزاني ...!؟

قلت :

لا ......صدقيني .....الزمن حقيقة لمن يدرك معناه , كفيل يقهر الألم , بنسيانه .....

الزمن آلة .... تنحت كل شئ ... تنحت معالم الأحجار ووجوه البشر , الزمن يأسو الجراح ....يسهل الإنتظار وعذابه ويلغي الخوف .....لأنه كفيل بالنسيان ,

ويشير أيضا بنهاية الاحزان وبداية الأفراح ...وأضفت كأنما تشجعني محاولة إدراكها لما تقول :

مع الزمن .... تكون بدايات تفتح الزهور , مواليد الاطفال ... ونهاية النخل المعمر ...

تضحكين ...؟

قالت وأعطافها مهتزة ...

في صدرها تختفي الضحكاتُ :

ليتني عرفتك منذ زمن بعيد .....

أسمع ؛

هل تأكل معي بسكويت بالملح ؟

أنا احبُّ هذا النوع واخرجت من حقيبتها التى بدت لي بعد ذلك كجراب الحاوي ، بسكويت وانواعا من الحلوى تضعها بين راحتي يدي مبتسمة كالممتنة ،

خذ .. فلنأكل ونضحك .... وليحدث ما يحدث :

اسمعْ ؛ هل اقول لك سرّا ؟

وأخرجت من حقيبتها مرّة اخرى خريطة ملونة من الورق المقوّى لبلادها فردت ثناياها وأشارت بطرف أصبعها النحيل إليّ ، أقصى منحنى عند الطرف الجنوبي حيث زرقة مياه البحر تحتوي جزءا بارزا أقرب الى شبه الجزيرة نقطة صغيرة كرأس الدبّوس تقول :

هنا .... بين سلسلة الجبال فى هذه المنطقة تقع قريتي التي سألتني عن نهرها ..

هنا ، في أحد بيوت هذه القرية ولدت حيث كانت تسكن منذ سنوات عائلتي على أرتفاع ألف وثمنمئة متر فوق سطح المحيط ،

حيث الغابات الكثيفة الأشجار , وسفوح الجبال والثلوج والذئاب وقلة من الناس الرعاة البسطاء .....

هنا سوف نلتقي معا ، هذا المساء بقاعة الاحتفالات .... حيث سأحضر حفل توزيع الجوائز على شباب القرية ، سيتم ذلك قبل عرض فرقتكم ....

ثم .......

قطع حديثها صوت مشرف الرحلة ، أذاع وصفا تعريفيا لقرية نهر العسل .

تاريخها ... سكانها ,

ثم تعليمات ونظام حفل الشباب الرياضي الذى سنشاهده وتوزيع الجوائز وعرض فرقة الفنون الشعبية ودعوة عمدة القرية لنا على العشاء قبل ذلك ....

ثم نظام التجمع للعودة ، حيث ستقوم السيارة عائدة بنا فى السابعة صباحا .....

كان حديثنا قد تحوّل همسا ثم أنقطع مع وصولنا القرية ومشاهدة مبانيها المعلقة في الهواء أمامنا ، ثم بدأنا نستعد للنزول واستقبال وفد المهرجان وانتظام أعضاء الفرقة معا للسير الى مكان استراحتهم .

فأفترقنا ......

تركتني صبيحة بإشارة تحية من يدها وشخص ما ينتظرها امام سيارات الرحلــة .

لاند روفر ....

ركبتها وأنطلقت بها إلي خلف المسرح الذى دخلناه من أوسع أبوابه .

 

***********************

خلال حفل العشاء المبكر التقت عيناي بصبيحة ،

كانت تجلس الى جوار عمدة القرية تتحدث معه باهتمام ....

وما كاد العمدة أن ينهي كلمته الترحيبية بالفرقة ويمنحهم جوائز المهرجان طفقنا ننصرف من القاعة الى صالة المسرح حيث اختفت صبيحة عن ناظري تماما .

بحثت عنها بين صفوف الحاضرين ، ثم تحركت وراء الكواليس بين أعضاء الفرقة وأدارييها ...

أمام باب المسرح , هنا وهناك , دون جدوى ...

لن أعثر على أثرٍ لها ...

اختفت ... تبخرت !!

حتى سيارتها لم اجدها في مكانها ...

بحثت عنها برغبة ملحة علّي أن اجدها ولو في نهاية العرض .

آه ... إنها هنا !!

تقف خلف الكواليس ، تركز بنظرات ثابتة نحو الراقص الأول ، مراد وهو يؤدي رقصته الأخيرة بحركاته الرشيقة مع جوقة البنات .

بين البنات السبع يدور دوراته الجنوبية ملوّحا بعصاه كالسيف ، يضرب بها الهواء بين رؤوس الراقصات ، ثم يدق بكعبه خشبة المسرح ..

يعلو سابحا فى ملكوت موسيقى العرض وألوان الملابس ومصابيح الإضاءة الملونة وكأنه أميرٌ متوجٌ ببريق ألوان ملابسه الزاهية وعمامته المحلاة بالجواهر .

ظللت مندهشا ... مأخوذا بالفكرة المجنونة التى عادت تدور كالنحلة فى رأسي , أتابع إستغراق صبيحة في مشاهدة رقصة مراد ... وأتابع مرادا في حركاتهِ الراقصة ...

حتى تخيلت أنه خلال رقصه ينظر اليها نظرة أثارتنى ثم تكرر ت النظرة وتكررت حتى أنتهى العرض فجأة وبدأ الجمهور يصفق تحية للفرقة ...

إتجهتُ الى مكان صبيحة حيث لم أجدها والعجب أيضا ، لم اجد مراد !!

تحركت مسرعا هنا وهناك أختصر الحديث مع كل منْ يحادثني ,

أسالُ عن مراد كل من ألقاه من الراقصين حتى أشار لي مدرب الفرقة ناحية الباب الخلفى للمسرح حيث ألتقت عيناي مرادا وصبيحة واقفين معا يتحدثان في احد الأركان همسا , وبالإشارات .

وقفت أتابع حديثهما عن بعد بإحساس غامض يمنعنى من الأقتراب منهما.......

كانت صبيحة تهمس لمراد بكلمات يهز لها رأسه موافقا .... ثم جذبته من ذراعه تقوده بعيدا .....ثم اختفيا وراء المسرح وحديقته وسط الظلام وهما يتضاحكان .....

 

***********************

اختفيا ....

وظللت متجمدا بالحيرة والقلق الغامض في مكاني .......

اختفيا ... !!

أين !؟

رحت أفكر ........

أين يكونان قد ذهبا معا فى هذا الوقت من الليل !؟

لا مكان هنا يقصدانه للحديث معا سوى سيارتها أو تلك المقاعد في مدخل الغابة الممتدة أمام مبنى المسرح .

كان أعضاء الفرقة ينادون عليّ لأذهب معهم إلي مكان مبيتنا في استراحة مجلس القرية ، حيث سنبقى حتى الساعة السابعة صباحا ، فتحججتُ بعدم رغبتي بالنوم ، ثم إستطردتُ قائلا إنني أعرف مكان الإستراحة وسأحضر بعد ساعة أقضيها في التنزه في الغابة ......

كنت ملهوفا أنْ أعثر على مراد وصبيحة .....

كنت قلقا ، ينتابني هاجس غامض أنني امام حدث مثير سيحدث .....

أسألُ نفسي ؛ كيف تعرفت صبيحة بمراد سريعا هكذا .....حتى يتهامسا ويسيرا معا وحدهما فى الظلام ....

عادت ضحكاتها ترن في أذني ......

صورة صبيحة عادت تخايلني بالفكرة المجنونة ... وهى تضع ذراعها في ذراعه ويمضيان معا ويبتعدان حتى يبتعلهما الظلام ......

الى أين ذهبا معا ... !؟

مضيتُ بخطوات ثقيلة أفكر , أتسكع على غير هدى , حتى جلست ضائعا فى مدخل الغابة أجلس على أول مقعد حجري أفكر وانتظر ....

أمضيت في جلستي وقتا لا أعرف مداه منتظرا احملق فى فراغ الظلام الساكن .....

تعانق وجهى نسمات الليل الرطبة .... لمعان نجوم السماء ... أسمع أنين الرياح الهابطة من سفوح الجبال .... وأنا افكر كيف سريعا هكذا تعرفت صبيحة بمراد وهي التى لم تتحادث معه قبل ركوبها السيارة .

لأتخلص من إلحاح الفكرة المجنونة التي تسكن رأسي قمت اتجول في الغابة ، اجتاز طريقا عريضا ترتسم عليه أثار عجلات السيارات والمارة .

رحت أخطو تسوقني قدماي خائفا مضطربا من سكون الغابة وحفيف اشجارها رغم أن القمر كان بدرا في تمامه وبهاء ضوئه يعكس ظلال سيقان الأشجار وأغصانها تحت قدمي وعلى العشب الاخضر حولي وطائر فى الفضاء فوق الغابة يغرد بصوت ممدود كالأنين .....

مشيت ومشيت , درت مع طرق الغابة وانحنيت حتى انتهى بى السير الى مساحة خضراء من الشجيرات الصغيرة تتوسطها شجرة مقطوعة جلست عليها أتابع أفكاري الطائشة متعجبا من إصرار الفكرة المجنونة على اللعب برأسي , أرفض أستمرار صورها الملحة على ذهنى .... اتذكر صفاء عيني صبيحة الرماديتين وصوتها الوديع الخافت , ملامح وجهها وهى تجهش بالبكاء على كلبها ، رغبتها في زيارتها للقاهرة .

أقول لنفسي لا ...لا .... هذه أوهام عقليتي الشرقية .....

لكن القلق والفكرة المجنونة يعذباني .....

ولأقاوم هذا العذاب ... لكي اقتله ,

قمت امشي متوغلا في الغابة اكثر .....

***********************

كانت الغابة متنوعة الأشجار ، يحيط بي سكونها ورائحة ثمارها مع ضباب الجبل المنحدر مؤذنا بإقتراب أضواء الفجر .......

كنت أسمع وشوشة الأغصان من حولي وصدري يتنفس عميقا في سكون الندى الوادع وهو يعانق أوراق الشجر .......

كنت أمشي شارد الذهن , مطرقا مأخوذا بأفكاري حتى سمعت حركة خفيفة على مقربة منى : ثم شاهدت فجأة ما يشبه الذئب أو الثعلب ...

حيوان رمادي يحث الخطى كالبرقِ لينقضّ على أرنب جبلى أبيض .

الأرنب يجفل .. يمرق عدوا يختبئ تحت أوراق الشجرة قصيرة الساق ثم سرعان ما سمعت صيحة فزع مكتومة ظهر بعدها ذلك الحيوان يخرج ممسكا بين أنيابه بعنق الأرنب نحو دغل بعيد .....

حدث ذلك الأفتراس الحيواني فى لحظات فأدرت وجهي بعيدا عن الأدغال .....

أدرت وجهي ومشيت مسرع الخطوات بين الأشجار المتشابكة .....

مشيت .....مشيت .....لا أشعر بما حولي ، لا أتفرس رغم الخوف فى شيء أراه حتى فؤجئت بسيارة الرحلات وعلى مقربة منها تحت شجرة كثيفة الأغصان رأيت حقيبة صبيحة الجلدية تلمع في أضواء الفجر التي بدأت تقترب وقد خرجت من أحشاء الحقيبة منتثرة حولها بعض محتوياتها ....

زجاجة مياه معدنية ....علبة بسكويت ، فوطة وفرشاة شعر ، صندوق فضي صغير وأنابيب وزجاجات صغيرة مبعثرة ....

ثم على مقربة من كل ذلك لمحتُ مرادا يجلس مسندا بظهره إلي جذع الشجرة من الناحية الخلفية عاقدا أكمام قميصه رغم لسعة برد الفجر حول عنقه وعلى ساقيه الممدودتين تسند صبيحة برأسها ممددة فوق ملاءة بيضاء مستغرقة في ما يشبه النعاس أو النوم .......

رأيت ما رأيت ......وتجمدت خطواتي خائفا أن تصدر عني أية حركة أو صوت ينبههما لوجودي .....

وبينا انا اتأمل المشهد صرخ طائرٌ من اعلى الجبل فرفع مراد رأسه يتطلع الى مكانه ... وتيقظت صبيحة ترفع رأسها تنظر حولها ...ثم تقع عيناها على مكان وجودي ، فتواريت سريعا وراء شجرة كبيرة تحجبني تماما ......

كانت أضواء الفجر تكشف كل ما حولي وعيناي من وراء الشجرة تتابع صبيحة وهى تقف ترتب بلوزتها وبنطلونها الجينز وجدائل شعرها الذهبي .

تمد يدها تجمع حاجاتها تضعها في حقيبتها ... ثم تمد ذارعها توقف مرادا يتمطى فاردا ذارعيه .

قبل انْ يسير نحو السيارة التي بجوارهما يتحدثان همسا .....

انعمت النظر أمامي ، حولي , مسحت بوجهي من أثر الندى الذي يبللني لأرى جيدا صبيحة ومراد وهما يتصافحان ويتعانقان .....

ثم وهي تبتعد عنه خطوة ... تتأمل وجهه وكيانه كله .....

كأنما لتحتفظ بصورته مبتسما في حدقتي عينيها وذاكرتها ....

كانت بشرة وجهها المستدير بين جدائل شعرها مضيئة بنعمة الصبا تحت ندى الصباح واضوائه ....

كانت عيناها الرماديتان الواسعتان في صفاء الرقة توحيان بالرضا ....

ملامح الوجه الهادئة الساكنة النظرات كانت مشبعة بمعنى الأمتنان .

كأنما هى سعيدة بطلوع النهار وهى مع مراد ....

تبدو فرِحة بخضرة الأشجار حولها ، زرقة السماء الصافية بلا غيوم فوقها .......

ثم راحت تحرك ذارعيها وتسير مطرقة أمام مراد ....

تسير خطوات ... ثم تلتفت تنظر له فجأة مبتسمة تناوله حقيبتها , وتعدو فيعدو خلفها ...

يجريان كوعلين سعيدين بانطلاقهما على الحشائش الخضراء الندية ، ثم يلحق بها فيمسكها من ذارعها ... يجذبها نحوه تاركا الحقيبة على الارض بين قدميها يعانقها طويلا ... ثم تفلته من بين ذارعيها متجهين والحقيبة بيده نحو السيارة ......

كانا قد ابتعدا مستديرين مع الطريق وسط الغابة مقتربين من السيارة فخشيت انْ يرياني في مكاني فأسرعت مبتعدا أستتر بالشجرة التى كانا يجلسان تحتها .....

وقفت أتحسس الشجرة جيدا وراءها لأتابع رحيلهما فوقعت عيني صدفة على شيء يلمع بريقه فوق أحد أفرع جذع الشجرة ، تأملت ذلك الشيء فأذا به الدينار الذهبى يلمع بريقه .

مددتُ يدي تناولته فى راحتي لحظة قبضت عليه بأصابعي التي أحسست كأنما اغرسها فى أحشائي .... وعيناي تتطلعان نحو مكان السيارة وصبيحة ومراد يقتربان منها .....

كان مراد يمشى الى جوار صبيحة متحسسا جسده بذراعه حول صدره ، بينما كانت تتحرك هى وراءه كصبية صغيرة تحمل سرا جديدا بين جنبيها ....

تخطو محملة بالنشوة كأنما لا أحد معها ...

لا شئ تشعر به سوى سكون الغابة .........

-

-

- تمت