أ.د أحمد فرحات يكتب : تمرد .. كفى عسيري

أ.د أحمد فرحات يكتب : تمرد .. كفى عسيري
أ.د أحمد فرحات يكتب : تمرد .. كفى عسيري
 
أمسكت بتلابيب قميصه.. صوبت إلى عينيه نظرة عجز أن يفهمها..
نعم لن يفهمها.. نظراتها، وجعها.. احتیاجها، رغم ادعائه ذلك للحظة شعر أنها نظرة استعطاف، ثم تحول شعوره ليجدها نظرة ساخرة، واستقر به الشعور على أنها نظرة أنثى قوية متمردة على الوجع بعد هذا الصراع بين أعينهما قالت له: كم ينبغي لي أن أجد من الخرائط ما يكفي لذر ما في ذاكرة بعمر ألف سنة؟!! تنقر بطرف سبابتها صدغها وهي تقول: أنت هنا في ذاكرتي .
في رأسي تثقلني. تتكدس إلى درجة التعفن. تعبت. تعبت كثيرا وأنا أحاول أن أزعزعك من ذاكرتي، وأنت مثل صخرة عملاقة رابضة وسط واير لا تسمح أن ينفذ من خلالها شيء.. أخرجت شهادة الوفاة. | نظرت نظرة أخيرة إلى عينيه . أحكمت إغلاق الصندوق على صورته وبدلته العسكرية .
********************
تمتلك القاصة كفى عسيري موهبة حقيقية في صناعة الفن القصصي، ونادرا ما نجد موهبة حقيقية دون أن نرعاها ونهتم بما تنجزه، المنجز الفكري لعسيري يؤهلها لامتلاك ناصية القصة القصيرة، وربما تفوقت على نفسها وتفوز بمسابقات كبرى في الفن القصصي، أقول هذا على مسؤوليتي النقدية والأدبية. 
لم يكن حكمي على موهبة عسيري من فراغ؛ بل جاء مبنيا على أسس نقدية ومنهجية في التعرف على موهبتها، بعد قراءة "تمرد"، وهي قصة تحمل معاناة أنثى مات زوجها، ولم يبق منه إلا صدى الذكرى، وهي كافية لتبقيه حيا تناجيه ويناجيها آناء الليل وأطراف النهار، تستعطفه، تستميله، تسحره، تخلبه، تحاوره، تناقشه، عبر أشيائه الباقية، فهو إن كان قد مات فعلا، فإنه لم تمت ذكراه، ولا ماتت بقاياه، يعشش في ذهنها ، يجوب دهاليز قلبها، يصافحها في المساء ويناغيها في الصباح، لا هي تقوى على نسيانه، ولا ذكراه تكف عن العبث بعواطفها. 
خلقت عسيري صراعا محتدما بين عينيه وعينيها، بين قلبها وذهنه، بين ياقة قميصه وأناملها، بين عبثه معها وتجالدها واصطبارها. فما أصعب الذكرى إذا لم تغادرها!!
تمسكت القاصة بأهداب الذكرى بكل طاقتها على التحمل، حاولت مرارا، فلم تفشل محاولتها للانفلات من براثنها العالقة في ثوبها وقلبها وكيانها كله. 
إن أشد ما تعانيه المرأة إذا انفردت بها الذكريات هو عنفها وسطوتها على جسدها الواهن، الراغب في استمرار الحياة، فإذا مات الحبيب والزوج فإن الحياة مستمرة، ولن تتوقف، وعليها أن تضع حدا لذلك الصراع القاسي. فإما أن تقتل مشاعر الأنثى، وإما أن تحياة مرة أخرى. 
الاختيار صعب، أحلاهما مر، لكنها قررت أن تكون المرة الأخيرة لتفتح صندوق الذكريات، وعليها أن تحكم إغلاقه، وليدفن أيضا مع من مات. وقررت التمرد على عادات بالية، قررت أن تعيش وتحيا حياتها بإرادتها الحرة. بعد صراع عنيف مع ذكرياتها، وحنينها إليه، قررت أن تعيش، مادامت الحياة باقية. 
استخدمت عسيري صيغتي المضارع الحاسم (عجز أن يفهما –لن يفهمها) ، واستخدمت تعبيرات دالة على الصراع من خلال ثلاث نظرات: نظرة استعطاف، نظرة ساخرة، نظرة أنثى قوية متمردة، وهذه النظرات نقلت الفعل الحركي من حيز التخيل إلى حيز الصمود والتحدي. 
ومن خلال تكرار فعل التعب( تثقل رأسي- تتكدس إلى درجة التعفن- تعبتُ –تعبت كثيرا) هذا التكرار أفضى إلى نقل شعور التعب إلى المتلقي. وأكده وقوى مضمونه. 
ومن خلال ثلاث كلمات ألمت بقضيتها العادلة، قضية كل أنثى: نظراتها، وجعها.. احتياجها. فالنظرة ألم وحسرة إذا لم تجد من يرعاها، والوجع كاف وحده للإحساس بالوحشة والقهر، والاحتياج قهر ومذلة. لذا كان القرار الصعب، لزم ووجب وتحتم عليها أن تغلق بواعث الذكرى، وأن تنتظر الأمل يولد من جديد مع نسيانها أو تناسيها ماض ما.