القلمُ و الخُبز بقلَم الكاتبة مينا راضي

القلمُ و الخُبز بقلَم الكاتبة مينا راضي
القلمُ و الخُبز بقلَم الكاتبة مينا راضي
 
 
إن الكتابةَ مهنةُ الفقَراء، الكاتبُ لا يَجني شَيئًا، إن الكتابةَ لا تُطعِمُ الخبزَ و لا تَكسو الجِلد، إنَّ الكُتّابَ يعمَلونَ دون مُقابل، اترُكي الكتابةَ فهيَ أبعَدُ ما يكونُ عن الثراء...
و غيرُها الكثيرُ من الجُمَلِ و العِباراتِ المُحبِطةُ التي تكرَّرَت على مَسامِعي من الأقرِباءِ و الخِلّان. لن أنكر، كانَت تلك الكلماتُ تُدَغدِغُ كبريائي بطريقةٍ وَحشيةٍ بعض الشيء، فتَدفَعُني في كل مرّةٍ إلى إعادةِ النظَرَ في رسالَتي، فكَّرتُ ألف مرّةٍ في تركِ الكتابة، و أستطيعُ القولَ أنني بالفِعلِ كِدتُ أن أتركَ الطريقَ في مُنتَصَفهِ و أتخَلّى عن القلم، لكنني لم أفعَل و لن أفعَل، ذلك أن القلَمَ كان في كل مرّةٍ يَشُدُّني من يَدي، يَجذِبُ لُبّي و أنامِلي كعَلاقةِ حُبٍّ ترفضُ أن تنتَهي. 
في آخر موقفٍ من شريطِ ذاكِرَتي الطويل، كنتُ أجلسُ في المقهى المُحَبَّبِ لقلبي. و في ذلك المقهى تحديدًا تعرَّفتُ على فتاةٍ مسلِمةٍ من أصلٍ باكستاني و تبادَلنا الأحاديث. تبيَّنَ لي أنها في نفسِ سنّي و كذلكَ في نفس مُعضِلَتي و حَيرَتي، فتاةٌ عشرينيةٌ حديثةُ التخَرُّجِ من الجامعة، تَمُرُّ في أزمةِ ربعِ العمُر، و قد كانت تبحثُ عن خيطٍ رفيعٍ يَقودُها إلى المستقبل الباهِر، تتلَفَّتُ يمنةً و يَسرةً علَّها تعثرُ على عتَبةِ طريقٍ صحيحة، علَّها تجدُ رسالتَها في هذا الكونِ الكبيرِ المُعَقَّد. بينما كنا نتحدَّثُ في مَواضيعَ مختلفةٍ كأي غَريبينِ تَعارَفا حديثًا، بادرَتني بسؤالٍ غريب. " ما الوظيفةُ التي كنتي ستختارينَها إن لم تَكُن النقودُ مُهِمّة؟ " ساعتئذٍ اعتَراني الصمتُ لبُرهة و لم أنبِس ببنتِ شَفة، فسبَقَتني بإجابَتها قائلةً: " أنا سأكتب، سأكونُ كاتبة " عندها تجمَّدَ العالمُ من حولي و أدخلَني معهُ في دوّامةِ الوجومِ الشاملة. في تلك اللحظةِ انتهى ذلك الحوارُ اللطيف بالنسبة إلي، فلم أكُن أسمعُ أي كلمةٍ تَقولُها بعد تلك العِبارة، لم أكُن أسمعُ سوى طَنينِ أفكاري، أحسَستُ بمَوجاتِ الأسئلةِ و هي تتَقاذَفُني دون رحمة، مَوجاتٌ صَوتيةٌ صامتةٌ لم يسمَعها أحد. تُرى لماذا لا يسمعُ العالمُ ذلك الطَنينَ المزعجَ في رؤوسنا؟ و كما يقولُ شاعِري المفضَّل سركون بولص في إحدى دَواوينه: " أين تذهبُ الأصواتُ عندما لا يسمَعُها أحد؟ " و كالعادة، تَخوننا الإجاباتُ عندما نحتاجُها، فلا نَجِدُ أي إجابةٍ لنُسكِتَ بها قَرقَرةَ العقل. تُرى لماذا يعمَلُ الكاتبُ دون مُقابلٍ في مُعظَمِ الوقت؟ لماذا يواظِبُ على تقديمِ عَطاءٍ مجّاني؟ كنتُ أشعرُ بأنني أتَظاهَرُ على رَفيقي الأبَدي، على ذلك القلَم الذي لطالما انتشَلَني من بحرِ حُزني كلما انتَشَلته. كنتُ في تلك اللحظةِ أتمَرَّدُ لأولِ مرّةٍ تَمَرُّدًا شِزوفرينيًا غريبًا، فما أعجبَ أن يتمرَّدَ المرءُ على نفسه؟! إن كنتُ أكرهُ الواقعَ الذي يعيشُ فيه الكُتّابُ و الأدَباءُ و المؤَلِّفون، فلماذا أستَمِرُّ في مُسايرَته؟ لماذا أستَمِرُّ في الكتابةِ رغمَ أنني لا أتَقاضى سوى القليل؟ ما أصعبَ الانقِلاب العسكَري الذي قامَت به هَواجسي في تلك الليلة. كانت ذاتي في مرحلةِ الكَرِّ و الفر، و كنتُ أنا تائهةً بينهما أركَبُ أرجوحةَ الحَيرة، لكنني رغمَ كل ذلك الضَياعِ كنتُ أرى عين الحقيقة، لقد كنتُ مُتأكِّدةً من شيءٍ ما بشَكلٍ ما. أحيانًا تأتي الحَقيقةُ بوَجهها الواحد لتصفَعَ كل وجهٍ من وجوهِ الوَهم الألف، فتَكونُ تلك لحظةُ الاستيقاظ الأبَدي.
في تلك الليلةِ و بعد أن عُدتُ من المقهى هيمنَ عليَّ التفكيرُ في عالمِ الكتابةِ و الكُتّاب، و كيف أنهم يَجِدونَ أنفسَهم في مهنةٍ لا تُدِرُّ عليهم سوى الأصفار إلا في بعضِ الحالاتِ النادرة، عندما تتقاسَمُ الروايةُ و الكاتب ضربةَ حَظٍّ و تصبحُ تلك الروايةُ أو ذلك الكتاب الأكثرَ مبيعًا. نعم، تلك ضربةُ حَظٍّ لا ينالُها إلا القليل، و خاصّةً أننا نحن معشرَ الكُتّابِ مُتَشائمونَ بنسبةٍ كبيرة، فلا نجيدُ استغلالَ قانونِ الجَذبِ أو أي قانونٍ آخرَ من قوانين التنميةِ البشرية. تُرى ما الذي يَجذِبُنا إلى الكتابة؟ ما الذي يدفَعُنا إلى مُمارسَتها رغمَ كل ضَرائبِ الألمِ و السوداويةِ مُستَحَقّةِ الدفع؟ لماذا نختارُ أن نستَمِرَّ بعد كل ليلةٍ نُشَرِّحُ فيها ماضينا و نضَعُ فيها أوجاعَنا تحتَ المجهَر، فقط لنُخرِجَ للقارئِ نَصًّا يلمسُ مشاعره؟ كنتُ دون شكٍّ أجهلُ الاسبابَ العلميةَ التي تدفَعُنا لذلك، لكنني كنتُ أشعرُ بحَرارةِ الإجابةِ على طارفِ لساني، فتلك الإجابةُ المكّارةُ كانت مُختبئةً في مكانٍ ما، ربَّما في سردابٍ عميقٍ جدًّا، عميقٍ حتى يبلغَ العمقُ منتَهاه. كانت الإجاباتُ تتَوارى في أحضانِ العتمة، في ليلةٍ بَهيمةٍ مُستَنيرة، لم  يكن عليَّ سوى أن أجِدها. 
و في نهايةِ كل تلك المساراتِ الفِكرية توصَّلتُ إلى الجوابِ الشافي: لأن الكاتبَ كائنٌ نقي! نقيٌ إلى أبعدِ الحدود، فهو سفيرٌ للكلمةِ المجّانية، قيمَتهُ العُليا هي الفكرة التي يريدُ إيصالَها. نحنُ نعلمُ أن الأفعالَ نابعةٌ من مساراتٍ سُلوكيةٍ تبدأُ بالتَكوّنِ منذُ الصغر، و أن تلك المساراتِ مُكوَّنةٌ من مُعتقَداتنا و مَفاهيمنا، و إن تلك المُعتقَدات و المَفاهيم ليسَت سوى انعكاسٍ لقيَمنا الداخلية، فالقيمةُ هي جَذرُ كل سلوكٍ إنساني كما تقولُ صَديقَتنا الفلسفة. لذلك فإن أغلبَ المستشارين النفسيين و مُدرِّبي الحياة يبدأونَ رحلةَ التغييرِ مع مُراجِعيهم بعملِ تمرين مصفوفةِ القيَم. سأختَزلُ كل هذا الشرح بالقَولِ أن أعلى قيمةٍ عند الكاتبِ تتلخَّصُ في الأشياءِ اللامَلموسة، كالفكرةِ و الشعور و غيرها من الأمورِ الباطنيةِ النفسيةِ التي لا نستطيعُ حتى تَسميَتَها. بطريقةٍ أخرى، إن قيمةَ الفكرةِ الجديدةِ و الإبداع أعلى عند الكاتبِ من قيمةِ المال، و الأفضلُ هنا أن يؤمِّنَ الكاتبُ لنفسهِ و لعائلتهِ مصادرَ دخلٍ مُتعَدِّدة، و هكذا يستطيعُ ممارسةَ الكتابة بكل حرّيةٍ دون أن يحتاج شيئًا منها، فالكتابةُ لا تُقدِّمُ سوى ذاتِها، إنها الوسيلةُ و الغاية، الرحلةُ و الوجهة، السَعيُ و الهدَف، فلا يجبُ أن ينظرَ المرءُ إلى شغَفهِ على أنه وسيلةٌ تُفضي إلى غايةٍ مثل غايةِ كسبِ المال، فالشغفُ نعمةٌ كبيرةٌ بحدِّ ذاته، و علينا أن نتحرَّرَ من ألفِ هذه النعمة.