يس العيوطي يكتب : من نعم الله الزوجة الصالحة

يس العيوطي يكتب : من نعم الله الزوجة الصالحة
يس العيوطي يكتب : من نعم الله الزوجة الصالحة
 
أتحدث هنا عن تجربة العمر مع زوجتى "جريس". تزوجنا فى القاهرة فى 17 يونيو عام 1970 فى الشهر العقاري. هى مسيحية وأنا مسلم. وليس للإنسان حين مولده فرصة الخيار فى أي دين يولد فيه. وليس الناس على دين ملوكهم. كما يقولون. ولكن الناس على دين آبائهم وأمهاتهم. والدين شريعة وعقيدة وهذا تعبير جاء به الشيخ الأكبر شلتوت فى كتابه "الاسلام شريعة وعقيدة". شريعة أى أحكام، وعقيدة أى إيمان.
ومن يتاجر بالدين فهو خاسر. ومن يعارض أو يعترض على أديان الآخر فهو منافق وكذاب أشر. ومن يرى فى الدين الاسلامى مجرد جلبابا أبيض وقلنسوة أو عمامة أو زبيبة فى الجبهة فهو أعمى البصيرة والبصر.
ومن يدعو إلى عدم إلقاء التحية على النصارى فهو خائن لوطنه وتاريخه ودينه. وذلك للعديد من الأسباب: لاسلطان على أحد من البشر على الممارسات الدينية للآخرين. ولا شكوى مقبولة من أحد من عدم ممارسة الآخرين لدينهم. إذ أن الدين والوطن للجميع. ومن يتقول أو يدعو إلى تكفير الآخرين فهو كافر، إذ كان يدرى، فإن كان يدرى فتلك مصيبة، وإن كان لايدرى فالمصيبة أعظم. وما يحدث فى صعيد مصر أحيانا من إعتداءات على الأقباط فهو إرهاب داخلى ردت عليه حكومة مصر بيد من حديد حينما تمكنت من ذلك.
ولفظ ايجيبت هو تحريف لكلمة "قبط" نعم، مصر هى بلد الأقباط والمسلمين واليهود.
تقول المادة الثالثة عن دستور مصر المعدل في أبريل 2019: 
"مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيس للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية وشئونهم الدينية وإختيار قياداتهم الروحية".
وتقول المادة الثانية من الدستور "ذاته" الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع".
هنا يجب علينا أن نلاحظ أن نص المادة يقول "دين الدولة"، ولم يقل "دين الأمة". وهذه ملاحظة أرد بها على من يقول جاهلاً أن تلك المادة تنسخ مبدأ التسامح مع الأديان المغايرة للاسلام. وحينما تقول المادة "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع"، علينا أن المبدأ ليس تشريعاً. إنما هو خلفية للقوانين والتشريعات التى يسنها برلمان مكون من الذين يعتنقون الإسلام وغير الإسلام.
هذا أمر لا أثر فيه من وجود أغلبية فى مصر مسلمة، وأقليات أخرى غير مسلمة. ومن يعترض على أفراد تلك الأقليات على لفظ "الأقليات" فهو شخص لايعرف أن المقصود بذلك اللفظ هو منع الأغلبية عن الجور فى الوظائف والفرص والتعليم وكافة الأنشطة الأخرى عن تلك الفئات. هى مسألة عددية لا مسألة قانونية أو حقوقية.
والإشارة فى الدستور إلى أن العربية هى اللغة الرسمية لم يقصد منها منع تعليم أو استخدام اللغة القبطية فى الوثائق أو الاستمارات أو الأوراق التى تعنى الكنيسة القبطية العريقة وجودها. إن كنت لاتعرف اللغة العربية تضييق مساحتك المعيشة فى مصر.
وعوداً الآن إلى "الزوجة الصالحة" (جريس العيوطي).كنت أستاذاً للعلوم السياسية بجامعة سانت جونز فى كوينز بمدينة نيويورك. تعرفت عليها حينما كانت راهبة. وبعد فترة التقيت بها فى الجامعة وإذا بها تلبس ملابس مدنية. قالت إنها تركت الدير إذ أنها لاتوافق على التعقيدات والقوانين الكنسية التي لا تراها متوافقة مع الدين المسيحى السمح المفتوح، دين المحبة لادين العقاب. دعتنى لعشاء عيد الشكر Thanks giving الأمريكى. وإذا بى أرى أمامى أسره متماسكة يضحك أفرادها، ويتعاطف كل واحد منهم على الآخر، وجدت أمامى الممارسات الريفية فى القنايات شرقية سوى أننى فى الأراضى الأمريكية، وكنت عاكفاً على العمل بالأمم المتحدة كمدير سياسى، والتدريس بعض الوقت فى الجامعات الأمريكية بإذن من الأمين العام للأمم المتحدة، مهتماً بتأليف المقالات والكتب بالعربية والانجليزية. حياه جافة، وحياه وحيده بعد الطلاق من زوجة أرجنتينية أصرت عليه لرغبتها وإلحاحها على ان أعيش معها فى أمريكا اللاتينية. وكنت حينذاك اشتغل وظيفة مهنية فى المنظمة العالمية بنيويورك، وهى واحدة من 6 وظائف مرصودة لمصر فى الأمانة العامة بقرار من الجمعية العامة.
وكان من المشجعين الى فى الاستمرار فى الأمم المتحدة كبار ممثلى مصر فى نيويورك ومن بينهم المرحوم السفير محمد عوض الفولى، والسفير محمد الزيات وأمين جامعة الدول العربية الأول، عبد الرحمن عزام باشا، وخليفته حسونة باشا، وكذلك المرحوم رائد الدبلوماسية المصرية الدكتور محمود فوزى.
إذاً كيف أدير ظهرى لوطنى وللناصحين العظام حولى، ولوظيفتى التى أحب ممارستها خدمة لوطنى ولذاتى، كيف أهجر هذا كله لأعيش فى الارجنتين رغماً عن أننى أجيد الأسبانية، ولكنى لا أستطيع أن أكتب بها. ولن تنفعنى لغاتى الآخرى وهى العربية والانجليزية والفرنسية فى بلاد أمريكا اللاتينية.
ضاقت بى الدنيا بما رحبت، وإذا بى أركب طائرة الى المكسيك حيث استصدرت الطلاق التى كانت زوجتى الأرجنتينية تهدد به ليل نهار. وعدت حراً طليقاً، أبحث عن جريس فإذا بها هى الأخرى تبحث عنى.
كانت زوجتى الأرجنتينية "بللى" قد أشهرت الإسلام ديناً لها فى القنصلية المصرية دون إصرار منى. أما زواجى الثانى فقد استشرت والدى الأزهرى، المرحوم الشيخ السيد محمد العيوطى العالم الازهرى ، فى امر دين جريس. كان رده موجزاً "لاتغير دينها فهذا أمر يعارضه الإسلام".
ذللت العقبة الدينية فى الجبهة الاسلامية، إلا ان الكنيسة رفضت حينذاك الموافقة على زواجى من جريس. قال لى الأب ميرفى فى بروكلين: لاتتزوج راهبة سابقة إذ أنها سوف تعود بمحض إرادتها إلى الدير مرة أخرى.
وبكت جريس، وإذا بي أكفكف دموعها وأقول: "أنتى لاتحبين الطيران. ولكن لماذا لاتتغلبين على ذاك الشعور، لكى نتزوج فى القاهرة، زواجاً مدنياً في الشهر العقاري؟" انفجرت ضاحكة وعانقتني وقالت: "الآن!! الآن!!".
سافرنا الى القاهرة، وقامت أسرة صديقى المرحوم الدكتور محمود محفوظ، وزير الصحة سابقاً، بإعداد الفرح فى فندق "عمر الخيام" (ماريوت الآن)، وجاءت القرية بأكملها على مايبدو لحضور المناسبة، وكان هذا تعزية لى إذ توفى الوالد قبل زواجى بفترة قليلة. وسارع التلفزيون المصرى بإرسال طاقم لتصوير المناسبة، وكان هذا رداً جميلاً على الخدمات التى قدمتها لإذاعة القاهرة فى عهد المرحومين على خليل وعبد الحميد يونس، حينما كنت رئيساً للإذاعة والتلفزيون بالأمم المتحدة.
كان هذا فى 17 يونية عام 1970. والآن بعد 51 عاماً من زواج سعيد هادئ، أسجل هنا أسباب وصفى لجريس، والدة يوسف السيد محمد محمد حسانين العيوطى، بالزوجة الصالحة. وأضيف هنا أن يوسف الذى يتكلم العربية بطلاقة.
سنى الان 94 عاماً. وهى أصغر منى بـ 13 سنة، نقيم نحن الثلاثة فى منزل واحد فى مدينة ستونى بروك، التى تبعد عن منهاتن ب 50 ميلاً. توفر لى كل المقومات والظروف التى تساعدنى على الكتابة والتواصل والخدمة القوية. تحب مصر حباً جماً. ولقد كتب المرحوم مصطفى أمين فى عموده "فكرة" أن "من محاسن يس العيوطى أنه علم ابنه يوسف العربية. ولكنه ياخسارة، بلهجة الشراقوة(أهل الشرقية) الذين يقال عنهم أنهم باعوا قطار السكك الحديدية".
وكان المرحوم الأستاذ محمد حسنين هيكل يسألنى دائماً فى مناسبات العشاء التى كان يدعونى إليها: "لماذا لاتكتب معارضاً لقصة القطار؟". وكان ردى "لماذا تريد أن تحرمنا من قصة جعلت كل مصر ترى فى الشرقية أهل الكرم والوفاء؟"
جريس تشجعنى دائماً على القيام بأية أنشطة أريدها. وتحمل إلى غرفة مكتبى المظروف الأبيض الذى يضم "صوت بلادى" وتقول "بلادى هنا".
تتابع هى ويوسف الأحداث فى مصر والنهضة الحاضرة، ويتشدقان بها لأنها موطن "يس" وحينما سافر يوسف إلى مصر عاد بأهم هدية لنفسه "شيشة" واشترى لها التبغ المصنوع من التفاح من منهاتن حيث مازلنا نحتفظ بشقة هناك، أسستها جريس الزوجة الصالحة" بأثاث ايطالى.
أهديتها كتاب للطبخ العربي، أهدته لي الجمعيات النسائية فى الوسط الأمريكى بين كنت ألقى بها محاضرات هناك.
أصبحت جريس "معلمة" فى طبخ الملوخية وفى عمل "الكنافة" وصدق من قال "إن طريق حب الرجل هو معدته" وهذا صحيح إلى حد ما. إلا ان حبى لتلك الزوجة الصالحة أنها مثال حى على تلاقى الأديان والثقافات. مثال حى على نظرتها إلى مصر كوطن ثان لها. هى تدخن وأنا لا أدخن. وحينما تحاول إطفاء سيجارتها حين أجلس الى مائدة المطبخ، أحس بالذنب فأقول "لاتحرمى نفسك من التدخين، غير أنى أخشى عليك من آثاره". تضحك وتقول "الأعمار بيد الله".
وحينما كانت تتوجه أسبوعياً كل يوم أحد إلى الكنيسة الكاثوليكية المجاورة لنا، كنت أصر على الذهاب معها، وهنا أتذكر أن راعى الكنيسة قد طلب منى مراراً واستجبت أن أقرأ القرآن "مترجماً" من المذبح.
صورة حية لتلاقى الأديان. وهو مبدأ تقف جريس العيوطى عنواناً عليه.
هذا مع أن جواز سفر يوسف المصري يثبت أنه بشهادته هو "مسلم" وبلدته "القنايات شرقية". الاختيار الطوعى والتلاحم الأسرى، مصدره زوجة صالحة.