بهجت العبيدي يكتب : الصبغة المقدسة لمعارف الماضي ... هل نعيش عصرنا؟!

بهجت العبيدي يكتب : الصبغة المقدسة لمعارف الماضي ... هل نعيش عصرنا؟!
بهجت العبيدي يكتب : الصبغة المقدسة لمعارف الماضي ... هل نعيش عصرنا؟!

 

الزمن ليس واحدا، فالزمن المادي يختلف عن الزمن النفسي يختلف عن الزمن المعرفي، فإذا كان الزمن المادي يقاس كما هو معروف بالدقائق والساعات والأيام، فإن الزمن النفسي ليس له آلة يمكننا القياس بها، فالوقت الذي يقضيه إنسان مع حبيبه يمر سريعا كالبرق، فلا يشعر بآلة الزمن، ولا يحس بمرور الوقت، وإذا به فجأة وقد انتهى اللقاء المحبب للنفس ومرت معه الساعات الطوال دون أن يشعر بها، هذا الذي هو على النقيض منه تماما في لحظات الانتظار التي تمر بطيئة بدرجة هائلة، ويشعر بها الإنسان وكأنها الدهور التي لا تنتهي، وإذا كان في الحالة السابقة انتشت النفس بالفرحة التي كانت سببا في عدم الإحساس بمرور الوقت، فإن القلق والتوتر اللذين يملآن أيضا النفس كانا السبب في تلك الحالة التي أشعرت الإنسان بوقوف الزمن وعدم انقضائه، وكلا الحالتين لا يختلف فيهما الزمن المادي الذي هو دقائق وساعات وأيام. 

أما الزمن المعرفي فهو غير هذين الزمنين، فإذا كانت المعرفة هي الإدراك والوعي وفهم الحقائق عن طريق العقل المجرد أو بطريقة اكتساب المعلومات بإجراء تجربة وتفسير نتائج التجربة أو تفسير خبر، أو من خلال التأمل في طبيعة الأشياء وتأمل النفس أو من خلال الاطلاع على تجارب الآخرين وقراءة استنتاجاتهم. إن المعرفة مرتبطة بالبديهة والبحث لاكتشاف المجهول وتطوير الذات وتطوير التقنيات. فإن بعض المعارف يمكن أن يظل مؤثرا في البشر مئات بل آلاف السنوات، وإن كانت المعرفة المادية متطورة، وإن كانت قد ظلت جامدة في فترات زمنية نتيجة لسيطرة فهم معين ورؤية جامدة عليها، كما حدث في القرون الوسطى حينما سيطر رجال الدين على المعارف وأخضعوها لفهمهم السقيم للكتب المقدسة، وهو ما يمكن أن نجد له امتدادا حتى اليوم، وإن أصبحت مطرقة العلم ثقيلة بدرجة تهز عروش أصحاب هذا الفهم الضيق.

نقول إن بعض المعارف تظل مسيطرة على فكر الناس للعديد من القرون ذلك الذي يجعل الزمن المعرفي ممتد لتلك القرون، وذلك أيضا الذي يجعل التغيير في سطح الطبقة المعرفية للمجتمعات من الصعوبة الشديدة بمكان، حيث أن تلك المعرفة الممتدة في الزمن، تكتسي مع مرور الزمن صبغة مقدسة، وما هي من القداسة  في شيء، هذا الذي يجعل حلحلتها شبه مستحيلة، وهذا ما يضع أصحاب الفكر والرأي أمام مسؤوليات جسام، حيث أنهم المُعَوّل عليهم أن ينقلوا الناس من الحياة في قرون خلت إلى العيش في عالم اليوم بمعارفه الجديدة وعلومه المتنوعة وأفكاره المتجددة، تلك التي يجد عوام الناس صعوبة هائلة في هضمها، وما ذلك لعيب في عقولهم ولا نقص في أفهامهم، بل لأن هناك من سيطر عليهم وأوهمهم أن في عدم التفكير راحة وفي الدعة السلامة وفي تسليم عقولهم لغيرهم ليفكر عنهم النجاة، وهنا تأتي مهمة المفكر والمثقف وقبلهم الفيلسوف، في إخراج هؤلاء من قصورهم الذاتي إلى إعمال عقولهم بطاقتها الكاملة في كل شيء دون خوف أو رعب. هذا الذي هو الطريق الوحيد للتنوير الذي عرفه الفيلسوف الكبير "إيمانويل كانت" في جوابه على سؤال القس يوهان فريدريش تسولنر (1753 – 1804): ما التنوير ؟ حيث حدد "إيمانويل كانت" مفهوم التنوير بأنه : خروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه من خلال عدم استخدامه لعقله إلا بتوجيه من إنسان آخر . 

ولقد حصر "كانت" أسباب حالة القصور تلك في السببين الأساسيين التاليين : الكسـل والجبــن ! فتكاسل الناس عن الاعتماد على أنفسهم في التفكير أدى من جهة إلى تخلفهم، ومن جهة أخرى هيأ الفرصة للآخرين لاستغلالهم ، وذلك بسبب عامل الخوف فيهم. 

إن نفض غبار الخوف عن كاهل الإنسان لكفيل بأن يدفع الإنسان دفعا لمعرفة العصر الذي يعيش فيه، ومن ثم قدرته على إنتاج معرفة تناسب هذا العصر، ويجعل لدى الإنسان القدرة على رفض معارف، لم تعد صالحة لهذا العصر، تم إنتاجها في عصور سابقة، وكانت صالحة لهذه العصور وتلك الأزمان التي أنتجتها، لأنها ببساطة شديدة كانت تتناسب مرة مع تطور  العقل  في هذا الزمن، وأخرى مع الكم العلمي والمعرفي لتلك الأزمان، هذا الذي يجعل الإنسان غير المرتجف خوفا من إعمال عقله أن يتخلى عن تلك المعارف، في حال كونها لم تعد صالحة للعصر الذي يحياه، دون أن يهتز له جفن، وهذا أيضا ذاته الذي يمكن الإنسان إخضاع كل شيء إلى العقل فما توافق منه مع العقل احتفظ به، وما خاصم العقل وفارق المنطق استبعده دون تردد من خوف وتخلى عنه غير مأسوف عليه. 

ومن هنا يستطيع الإنسان خلق منظومة فكرية وعلمية متصالحة مرة مع عقل العصر الذي يعيش فيه، وأخرى مع الكم المعرفي المتراكم الذي تحصل عليه الإنسان في عصره، هذا الذي يجعله يخضع الظواهر الطبيعية له، وهو ذاته الذي يجعله يكتشف من القوانين ما يفسر تلك الظواهر التي لجأ الإنسان في الماضي إلى تفسيرها بشكل أساطيري بما كان يتناسب مع معارفه في تلك الأزمان الماضية. 

وصدق شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري حين يقول: 

يرتجي الناسُ أن يقـومَ إمــامٌ ناطقٌ في الكتيبة الخرســاء 

كذب الظنُّ لا إمام سوى العقل مشيرا في صبحه والمســاء 

فإذا ما أطعـتــه جلب الرحمة عند المسير والإرســـاء