الطبعُ والتجديدُ في مَقاماتِ الغَزَّاوي (٢) بقلم: عمرو الزيات

الطبعُ والتجديدُ في مَقاماتِ الغَزَّاوي (٢) بقلم: عمرو الزيات
الطبعُ والتجديدُ في مَقاماتِ الغَزَّاوي (٢) بقلم: عمرو الزيات
 
 
 
 
8- المستوىٰ الفنيُّ والموسيقا
      يُعنىٰ النقدُ ونظرياتُه المتعددةُ بمحاولة انطلاق من أسسٍ لها من الملامح الموضوعية التي تعين في فهم النص الأدبي، وليس صحيحًا أنه – النقد - يقيم تلك الحدودَ الفاصلةَ المانعةَ بين النظريات النقدية ليُقبَلَ بعضُها ويُدّعىٰ علىٰ ما عداها الخطأ، إنما تعددت نظرياتُ النقد وتنوعت حديثًا؛ رغبةً في فهم النص الأدبي فهمًا دقيقًا اعتمادًا علىٰ الموضوعية ولوازم العلم، "ولأن العملَ الأدبيَّ تعبيرٌ لغويٌّ أداته اللغة فإن أول الانتقاء يظهر أول ما يظهر في اللفظة – وحدةُ هذه اللغة، وجزءُ كلِّ تركيب من تراكيبها، وعنصرُ التأثير في السياقات المختلفة – ثم وضع تلك اللفظة في تركيبٍ يأخذ شكلًا مخصوصًا وتنشأ من حولها سلسة من العلاقات" ( )
      ولا خِلافَ في أن لغةَ الإبداع الفني لغةٌ مجازيةٌ من الطراز الأول، إذ يحمِّل الأديبُ المبدعُ الألفاظَ دلالاتٍ جديدةً تكتسبها من خلال السياق أو ما يُسمى بالمسرح اللغوي، "وللأديب لمحات في الزمن بمعنى أن المصوِّر أو النحَّات لا يستطيع أن يلتقط بفنه غير وضعٍ واحد لموضوعه أي لمحةً واحدة في المكان، أما الأديب فيستطيع أن يصوِّر بفنِّه عدةَ أوضاعٍ متلاحقة للموصوف؛ أي عدة لمحات في الزمن" ( )
       والنظر للفظة لا بد أن يكون مصحوبًا بنظرٍ عميقٍ لسابقتِها ولاحقتِها؛ إذ يُكسِب التركيبُ اللغويُّ اللفظةَ دلالاتٍ جديدةً تُضاعف قيمتها الفنية، ونعني بتلك التراكيب الجديدة الصورَ والخيالَ والمحسناتِ والموسيقىٰ فضلا عن الوحدة الفنية، وهي تَعانُقُ كلِّ ما ذكرْنا وتآلفُه؛ ليخرجَ العملُ الإبداعيُّ على الصورة المطلوبة التي ترضي المبدعَ وتُسعدَ المتلقي. والأديبُ الحقُّ كالناسج الماهر الخبير بأنواع المنسوجات التي يستخدمها؛ ليصنعَ ثوبًا قشيبًا، وهو يقُدّ الألفاظَ والتراكيبَ قدَّاً لتلك المعاني التي ترِدُ على عقله، ولما يجول بقلبه من مشاعر وأحاسيس، هذا النسيج أو تلك التراكيب اللغوية التي يجمعها الأديب لابد أن يربط بينها رابطٌ ينبع من عاطفته، وقد يكون لدى الأديب حسٌّ جماليٌّ ولُغويٌّ وموسيقي، لكنه – في الوقت ذاته - لا يُحسِن الجمعَ بين تلك الأشتات، ولا يُجيد وضعَها في أماكنها الصحيحة، وهذا ما عابه أستاذُنا العقاد على حافظ إبراهيم؛ ففي1909م نشر نقدًا - وصفه البعضُ بالقسوة - على صفحات الدستور لقصيدة حافظ إبراهيم التي مطلعها:
لَقَد نَصَلَ الدُّجى فَمَتى تنامُ     أَهَمٌّ ذَادَ نَوْمَكَ أمْ هُيَامُ؟!
حيث رمىٰ القصيدةَ بالتفكك وعدم الترابط، يقول العقاد: "إنه – حافظ - أخذ قطعةً من الحرير، وقطعة من المُخْمَل، وقطعة من الكتّان، وكلٌّ منها صالح لصنع كساءٍ فاخرٍ من نسجه ولونه، ولكنها إذا جُمِعَتْ على كساءٍ واحد فتلك هي مرقّعة الدراويش".( ) فالعقاد كان يؤكد علىٰ مفهوم الوحدة العضوية كما ذكرنا، وظل يدعو إليها، فنجده في كتاب الديوان وتحديدا في نقده قصيدة شوقي (في رثاء مصطفى كامل) التي أطلق عليها العقاد (كومةَ الرمل) لتفككها وعدم ترابطها وخلوها من الوحدة العضوية التي نتحدث عنها، يقول العقاد " إن القصيدة ينبغي أن تكون عملًا فنيًّا تامًّا، يكمل فيها تصويرُ خاطرٍ أو خواطرَ متجانسة، كما يَكمُل التمثالُ بأعضائه، والصورةُ بأجزائها، واللحنُ الموسيقيُّ بأنغامه، بحيث إذا اختلف الوضع أو تغيرت النسبةُ أخلَّ ذلك بوحدة الصنعة وأفسدها؛ فالقصيدة الشعرية كالجسم الحي يقوم كلُّ قسمٍ منها مقام جهازٍ من أجهزته، ولا يُغني عنه غيرُه في موضعه إلا كما تغني الأُذُنُ عن العين، أو القدمُ عن الكف، أو القلبُ عن المعدة"( )   
وإيضاحًا للأمر نلِجُ إلى التطبيق على إحدىٰ مقامات الغزاوي؛ بيانًا لما ذهبنا إليه في السطور القليلة السابقة عن المستوىٰ الفني، واللغةِ وألفاظها وما تحمله من دلالاتٍ وإيحاءاتٍ تخدم العملَ الفنيَّ، وتحقق عناصرَ متنوعةً مثل: جِدَّةَ الموضوع، وطرافةَ الخيال ومتعتَه، وروعةَ الموسيقىٰ، وسوف نكتفي بالتحليل الفني لمقامةٍ واحدةٍ من تلك المجموعة، نشير بها إلى ما أسلفنا، وندلِّلُ على وجهة نظرنا، لكنها – وحدها – لا تكشفُ عن كلِّ جوانبِ العظَمةِ في إبداع الدكتور الغزاوي؛ وهي – نعني المقامة – جدولٌ صغيرٌ ينبع من المحيط الكبير فيها بعضُ سماته وصفاته، وإن لم يكن فيها جريانُه وموجُه الهادر.