خرج إلى شرفته وقت الغروب ؛ ليودّع - كعادته - قرص الشمس السابح في دماء الغروب ، وتذكّر على الفور لوحاته الفنية البديعة التي يفترسها تراب الوحدة وظلام التجاهل ، وأسند رأسه على جدار شرفته :؛ ليتذكّر من أشاد بلوحاته وأعماله وأسلوبه الفنيّ الفريد ، وابتسم حينما تذكّر سمسار الفنون الذي عرّفه عليه أحد مدّعي الإبداع ، ذلك السمسار الذي يمتصّ دماء المبدعين الصادقين ؛ ليزهو بها في وسطه وبين أصدقائه ، ولا سيّما وهو يلقي بفتات مالي تافه ، وكلّ ما يثقله أن مضطرّ أن يأخذ تلك الدراهم المعدودة التي كانت أنيابا تؤزّه أزّا ، وتفترس صفاء روحه وقلبه وكان السؤال الأليم الذي يفترس سكينة باله وطمأنينة قلبه : أيّ إنصاف هذا الذي يجعل سارقي إبداع الآخرين يسبحون في أمواج العيش الرغيد والمال الوفير ، بينما يعاني المبدعون من التهميش والتجاهل ؟ أي آلام تسافر في القلب والروح ، وأنا أرى أعمالا تعلّق في المعارض الفنية ، لا تليق أبدا أن تعلّق ، إذا ما قورنت بلوحاتي التي غرس التراب أنيابه في أطرافها ؟؟؟!!! ، حاول أن يخفف من آلامه وحرقته بالنظر إلى قرص الشمس المسافر في الزمان ، وهو يحدّث نفسه بأنه ينتظر اليوم الذي لا يأتي ، ينتظر اليوم الذي يرى العالم أعماله الدفينة ، وقد خرجت إلى النور ، وأبدى إعجابه كل من رآها ، وها هو يسير في الشارع ، وجميع من يرونه يشيرون إليه بالبنان ، هذا هو صاحب الأنامل الرقيقة والأصابع الذهبية والوجدان الرقيق ، وها هو قرص الشمس يذوب ويتآكل ، لم يبق إلا نصفه بل ثلثه بل ربعه بل حرف منه ، ويفيق من حلمه على أمواج اليأس والإحباط التي تنتظره عقابا على الحلم ، ما أسوأ أن تعاقب على حلمك ! ما أسوأ أن تجلد بسياط عذاب تكوي قلبك لأنّك لا تطلب إلا حقّك ! عشنا في زمن صار فيه المطالبة بأبسط الحقوق جريمة يعاقب عليها القانون ما أصعب أن ترى إبداعاتك ملفوفة مطوية منسيّة بينما تفاهات الآخرين محطّ أنظار الآخرين ! ما أصعب أن ترى أصحاب الملابس الأنيقة هم التافهون وبائعو الضمائر ! عزم صاحبنا بعد نوبة حلم مفاجئة أن يقابل سمسار الفنون من جديد الذي قد عرض عليه أن يرسم في الظل ، ويسلّم تلك اللوحات وينساها مقابل دراهم معدودة ، ولكنّه يفكّر ألف مرة ومرة ؛ ليختار صورته أمام نفسه ، فهو حائر بين صورتين : الأولى ترفضها نفسه وهو يمسك بمبالغ مالية تكتظ بها حافظته حصل عليها من سمسار الفنون ، والصورة الأخرى صورة الإنسان البسيط الذي يكمل عشاءه حلما باليوم الذي لا يأتي ، لكنّه رغم بساطة حاله راض بما يصنع فليس له في عالم التدليس والتزوير ، وها هو يخطو نحو مرسمه ليرى لوحاتي الأحياء الموتى ، وكأنّ تلك اللوحات تربت على قلبه هامسة له : اصبر واحتسب ، ليس المهم أن تصل إلى نهاية الإبداع الراقي بل المهم أن تموت على درب الإبداع الصادق ، وأمامك نموذج الإبداع الذي يتجلّى في فان جوخ الذي مات فقرا وحسرة ، ولكن بعد وفاته تسابق العالم كله إلى لوحاته ليشتريها بملايين الدولارات ، ترى هل سأكون مثل جوخ ؟؟ تساؤل يقتات على صفو لحظاته استسلم له ، وها هي عجلات الواقع تدهسه وتنمّطه لكنه داخل نفسه يسبح ضدّ التيارات .