د. هالة مصطفى تكتب: المجـلـــس الـغـاضـــب

د. هالة مصطفى تكتب: المجـلـــس الـغـاضـــب
د. هالة مصطفى تكتب: المجـلـــس الـغـاضـــب

لمصر تقاليد برلمانية راسخة تمتد لأكثر من مائة وخمسين عاما منذ أسست أول مجلس نيابى بالمعنى الحديث فى عهد الخديو إسماعيل تحت اسم مجلس شورى النواب على غرار الدول الديمقراطية العريقة التى تفصل وتوازن بين السلطات كأساس للحكم. ولكون المؤسسة التشريعية تقوم على الانتخاب المباشر من الشعب, وبحكم وظائفها المعروفة فى التشريع وسن القوانين وحماية الدستور والرقابة على الحكومة, فهى تتمتع بمكانة خاصة ومسئوليتها إزاء المجتمع تُعد أكبر من غيرها من سلطات, فإذا وقع تعسف ما من الجهات التنفيذية, تكون هى المتفهمة والمحتوية والضامنة لحقوق جميع المواطنين سواء فى النواحى السياسية أو الاقتصادية والاجتماعية أو فى مجال الدفاع عن الحريات المدنية والفردية, ومن هنا تكون معايير الحكم عليها وعلى أدائها أكثر صرامة أى على قدر المُتوقع منها, لذا تعرض البرلمان دوما للنقد فى كل العصور والعهود السياسية, بل كان أحيانا موضوعا ثابتا فى الأعمدة الصحفية والكتابات السياسية الساخرة وفن الكاريكاتير, وأصبح كل ذلك من المسلمات.

مناسبة هذه المقدمة هى بعض ممارسات مجلس النواب الحالي, التى يطغى عليها التوتر وتُدخِله فى العديد من المواجهات مع أكثر من طرف دون مبرر كاف, ولأنها تزايدت فى الآونة الأخيرة فباتت تُشكل «نمطا» جاهزا يُصدره للرأى العام.

لا شك أن النماذج كثيرة ولكن لنتوقف عند القريبة منها, على سبيل المثال, واقعة إسقاط عضوية النائب محمد أنور السادات, التى ملأ النقاش حولها أغلب الفضائيات والبرامج الحوارية, وبغض النظر عن التفاصيل ومن المخطئ أو المُصيب, فإن الحدة التى اتسمت بها لغة النواب, كما ظهرت على الشاشات، والاتهامات المجانية بـ «العمالة» و«الخيانة» لزميل لهم بكل ما تحمله من أسلوب تحريضي، لم تترك أى فرصة للحوار المنطقى أو العقلاني, فبدا وكأن القرار اتُخذ سلفا ولم يكن ينقصه سوى الحشد! أكثر من ذلك كانت الحجة الرئيسية فى تحويل النائب للتحقيق ومن ثم إنهاء عضويته بالمجلس,هى إساءته لصورة البرلمان فى الخارج, ولكن للمفارقة أن هذا «الخارج» لم يجد عنوانا عريضا لتناول تلك القضية, كما جاء فى كبريات الصحف ووسائل الإعلام الغربية، سوى «إسقاط عضوية نائب منتخب» بسبب وجهات نظره وآرائه النقدية لبعض الأوضاع، والسؤال من بالفعل الذى أساء للصورة؟

جانب ثان يتعلق بنفس الأزمة, وهو ما أثاره السادات حول إنفاق مبلغ 18 مليون جنيه على شراء ثلاث سيارات مصفحة لرئيس المجلس فى وقت تعانى فيه مصر من أزمة اقتصادية طاحنة, ولم يكن هناك رد واضح من البرلمان على ما أثير، وللمفارقة مرة أخرى جاء الرد من الحكومة على الشق الذى يخصها بتخصيص واحدة من تلك السيارات لها، مع أن العكس فى المواقف كان هو المُنتَظر!

واقعة أخري, وهى تحويل الكاتب إبراهيم عيسى للنيابة العامة وفقا لما تم التصويت عليه فى المجلس, بسبب مقال كتبه ونشره بصحيفة «المقال», التى يرأس تحريرها, وفيه إساءة لمجلس النواب أو مساس بـ «كرامة» نوابه, حسب ما قيل, وليست المسألة فى الاتفاق أو الاختلاف مع الكاتب, لأن الآراء تخص أصحابها, فلا هى تدخل فى إطار المعلومات المغلوطة التى تستوجب تصحيحها ولا نشرها سيؤدى تلقائيا إلى تبنى الجميع لنفس الرأي. لذلك فالأخطر هنا أن يبدو المجلس وكأنه يلاحق الأفراد, أى مؤسسة فى مواجهة فرد.

إذا كانت هذه نماذج قريبة, فقبلها بشهور كانت هناك أمثلة لمواقف بعض النواب فيما يتعلق بحرية الفكر بدت «غريبة» وخارج أى سياق, مثل المطالبة بإعادة تقييم الأعمال الأدبية من زاوية «خدشها» للحياء العام ومن ضمنها أعمال نجيب محفوظ، بقيمته المعروفة التى قد تعادل وحدها مائة عام من التنوير، أو الدعوة إلى إجراء كشوف عذرية على طالبات الجامعة للحد من ظاهرة الزواج العرفى وغيرها. والواقع, ورغم الاختلاف الشديد مع هذه الآراء, إلا أن الهدف ليس مصادرتها أو النيل ممن طرحوها, احتراما لحق وحرية التعبير، ولكن التوقف عندها لسبب آخر, وهو أن آراء أى نائب بخلاف الكاتب- قد تتحول يوما إلى قانون, وبالتالى ستؤثر على المجتمع ككل, كذلك أن تُطرح مثل هذه الدعوات فى ظل الحرب الشرسة التى تخوضها الدولة ضد الإرهاب, والذى لا يتغذى إلا على الأفكار الرجعية والمتطرفة, فهذا هو الجدير بالاعتبار ولفت الانتباه.

ليست مشكلة البرلمان ونوابه فى الجدل حول كونهم «محترمين» أم لا, مثلما يردد البعض منهم, فالأكيد أنهم كذلك, وكل من يعمل فى المجال العام يتمتع بذات الاحترام, وانتقاد الأداء العام لا يقلل من احترام الأشخاص, ولا دخل له بـ «هيبة» البرلمان, فلا حاجة لأن يكون المجلس فى حالة دفاعية طوال الوقت إثباتا لتلك البديهية.

مشكلة المجلس الحقيقية أنه يفتقد إلى «السياسة» بلغتها وأساليبها وأدواتها, وهو أمر يتجاوز التصنيف التقليدى بين «مؤيدين» و«معارضين» ففى الحالتين (وفقا للتجمعات أوالتكلات التى نشأت بداخله) بقيت المواقف غائمة غير متجانسة, لا تيار فكريا أو سياسيا يجمعها , ولكون الانتخابات أجريت وجاءت بالغالبية العظمى للنواب على أساس فردي, فأصبح تقريبا لكل نائب توجهاته الخاصة وكأنها جزر منعزلة من الأفكار، وهو ما يؤثر بالضرورة على طريقة تناول القضايا السياسية والاجتماعية, التى تظل هى الأساس والاهم لأى عمل نيابى من التعبير المستمر عن الغضب!

 

ما بين واشنطن وموسكو

مع كل موجة إرهاب يتردد مصطلح «العائدون من دولة معينة» أى الإرهابيون الذين تدربوا وقاتلوا فى صفوف التنظيمات المتطرفة المسلحة فى بلد ما يشهد صراعات أو حروبا أهلية، ثم عادوا إلى أوطانهم الأصلية لينفذوا فيها ما تمرسوا عليه من قتل وترويع وتفجير واغتيالات وحرب عصابات. ففى الثمانينيات كانت قضية «العائدون من أفغانستان» وفى التسعينيات «العائدون من ألبانيا» الذين شاركوا فى حرب البلقان تحت اسم «المجاهدين» دفاعا عن مسلمى البوسنة, ومع الألفية الجديدة توالت التسميات والعائدون من مختلف مناطق الصراع فى الشرق الأوسط كاليمن والعراق, وأخيرا تكرر نفس الأمر وأصبحنا أمام العائدين من سوريا الذين شاركوا فى الحرب الدائرة هناك وبايعوا تنظيم داعش الإرهابي, الذى يتخذ من العراق وبلاد الشام كما يُطلق عليها, مرتكزا جغرافيا للانتشار تحت اسم تنظيم الدولة الاسلامية, وكأن هذه الأراضى باتت مقر «الخلافة».

هذه الخاصية تنطبق على تنظيم أنصار بيت المقدس فى سيناء الذى تحول إلى فرع لداعش وكذلك من قاموا بأغلب عمليات العنف المسلح والاغتيالات ضد قوات الجيش والشرطة والمدنيين وتفجير الكنائس واستهداف الأقباط عموما, بعبارة أخرى أصبحت الحرب السورية سببا لتزايد الإرهاب فى المنطقة وفى مصر.

صحيح أن مواجهة الإرهاب تتطلب بالأساس المواجهة الفكرية للأفكار المتطرفة بالإصلاح الدينى والتعليمى والثقافي, وبتفعيل دولة القانون تكريسا لمبدأ المواطنة, ولكن ليس هذا ما يتوقف عنده المقال, فقد كُتب وقيل فيه الكثير حتى لم يعد هناك ما يُضاف, وللأسف لم يحدث شىء ملموس على أرض الواقع, وإنما التوقف هنا عند الأبعاد الإقليمية والدولية لظاهرة الإرهاب, التى تجعله أداة للتوظيف والاستخدام فى صراعات أكبر بما يضمن استمرارها واستفحالها, فهكذا كانت البداية عندما سمحت حكومات القوى الإقليمية المتحالفة مع الولايات المتحدة بإرسال كوادر وأعضاء من التنظيمات الإسلامية السنية المسلحة (كتنظيم الجهاد والجماعة الإسلامية فى مصر) للقتال ضد السوفيت والحكومة الموالية لهم فى أفغانستان إبان الحرب الباردة, وكان ذلك جزءا من الإستراتيجية الأمريكية فى مواجهه الاتحاد السوفيتى آنذاك, ثم أعيدت التجربة وكأنها نسخة طبق الأصل بعد الغزو الأمريكى للعراق للحد من تزايد النفوذ الإيرانى والشيعى فيه, وهو ما يتكرر فى سوريا المتصدرة المشهد الآن, والتى فقدت كثيرا من مقومات «الدولة» لا سيادة كاملة على أراضيها، ولا شرعية حقيقية لنظامها الحالي، وأضحت فى المقابل ساحة مفتوحة لكل التنظيمات المتطرفة السنية والشيعية التى تحركها وتدعمها مختلف دول الإقليم وفق أجنداتها الخاصة, والأهم أن سوريا ذاتهاـ كبلدـ أصبحت رقما محوريا فى معادلة القوة والتنافس بين أمريكا وروسيا, ليس فقط على مستوى الشرق الأوسط وإنما على امتداد العالم، وتحديدا فى مناطق النفوذ القديمة للاتحاد السوفيتى، أى المحيط الجغرافى لروسيا وأوروبا الشرقية, وهى صورة أخرى مصغرة لما كان عليه الوضع زمن الحرب الباردة.

سبقت موسكو واشنطن فى السيطرة على سوريا بتدخلها العسكرى المباشر مثلما فعلت فى أوكرانيا بضمها لشبه جزيرة القرم بالقوة, أنقذت نظام بشار مرتين, واحدة عندما ضمنت الاتفاق مع الغرب والولايات المتحدة على نزع أسلحته الكيماوية فى 2013 درءا لضربة عسكرية أمريكية محتملة, والثانية بقواتها القتالية فى معركة حلب الشهيرة التى حققت نصرا ملحوظا للنظام بعد استرداده المدينة, شكلت حلفا أمنيا وعسكريا قويا (محور روسيا سوريا إيران وما يتبعها من ميليشيات) حصلت من خلاله على مكاسب مهمة, قاعدة بحرية وأخرى جوية، وتحكم فى شكل التسوية السياسية المنتظرة للصراع, وورقة ضغط دولية للحفاظ على مكاسبها فى مناطق نفوذها الأخري.

لا شك فى أن عهد أوباما وفر مناخا ملائما لترسيخ الدور الروسى فى الأزمة السورية, ليس فقط لموقفه السلبى أو المتردد حيالها, ولكن لأن السياسة الأمريكية وقتها كانت ترى ضرورة فى تحقيق توازن بين معسكرى السنة والشيعة فى المنطقة، وهو ما أسفر عن توقيع الاتفاق التاريخى مع إيران حول سلاحها النووي, والتغاضى عن توسيع نفوذها ووجودها فى سوريا وفى المنطقة ككل, وهو ما أعتُبر توافقا ضمنيا مع السياسة الروسية.

أكثر من ذلك ساد الاعتقاد أن إدراة ترامب ستكون مثالية لانفراد «روسيا بوتين» بوضع قواعد اللعبة وشروطها بحكم ما أعلنه الرئيس الأمريكى الجديد مرارا وتكرارا حول أهمية التعاون معها فى حل القضايا الإقليمية وربما الاعتماد عليها فى الأساس, إلى أن جاءت الضربة العسكرية الأمريكية ضد قاعدة الشعيرات الجوية بعد اتهام صريح لبشار باستخدام السلاح الكيماوى المحرم دوليا ضد شعبه.

الواقع, وعلى الرغم من محدودية هذا الإجراء, إلا أن رمزيته ودلالته تتضمن عددا من الرسائل ليست موجهه بالقطع إلى النظام السورى وحده, وفى مقدمتها تخلى أمريكا عن سياستها السابقة بشأن عدم التدخل العسكرى فى سوريا, بل إن الأمر على هذا النحو سيكون مرشحا للتصعيد وقد يستتبعه وجود قوات أمريكية أكبر أسوة بالأطراف الأخرى الموجودة على الأرض, والأهم أنه أول اختبار عملى لوضع إستراتيجية ترامب الجديدة الخاصة بأولوية مواجهة إيران موضع التنفيذ, أى نزع أهم أوراق الضغط التى يمتلكها بوتين بضرب حليفيه (سوريا وإيران), ومن هنا جاء رد فعل روسيا الغاضب واسخدامها حق الفيتو فى مجلس الأمن ضد مشروع قرار أمريكى ــ بريطانى لإدانة النظام السوري, وبغض النظر عن التفاصيل فقد تغيرت موازين القوى وأصبح حل الأزمة أكثر تعقيدا, فمن قبل كان الهدف المشترك والرئيسى هو مواجهة داعش, الآن أصبحت القضية هى إيران وتنحية بشار عن السلطة, وليس هذا بالخلاف الهين, فإما أن يقود إلى صدام بين موسكو وواشنطن، أو إلى صفقة سياسية بينهما ذوهو الأرجح - لتقاسم النفوذ سواء فيما يتعلق بسوريا أو غيرها من المناطق.

لا أحد يعرف ماذا سيكون مصير الدولة السورية المنهكة, وهل ستبقى أم تختفي، ولا متى ستبدأ المواجهة الحقيقية لإرهاب داعش.