في ليالي فندق شبرد قال نجيب محفوظ لنعمان عاشور وكأنه يتنبأ:
"إنتم خايفين يانعمان من الإصلاح السياسي والحزبي حتى لا تأتي الجماعات الإرهابية، والحقيقة إن الجماعات الإرهابية أقلية لكنهم منظمون جداً، ولو دخلوا الأحزاب ( في ظل عدم الإصلاح ) ونظموا نفسهم فإن الإخوان المسلمين سيحصلوا بدون شك على الأغلبية وستحدث فوضى في مصر، ثم استطرد بقوله وكأنه يسترجع التاريخ:
كان عندنا في مصر أحسن ديمقراطية، يحي إبراهيم وزير الداخلية الذي أجرى الانتخابات أسقطناه لصالح رجل عادي من الشعب ، وكان مكرم عبيد ينجح على قائمة الأشراف، ماذا تريدون أكثر من ذلك! .. إن لم تبدأوا بإصلاح فانتظروا الفوضى !
ذلك لاشك نجيب محفوظ الذي خالط الصعاليك والحرافيش وغالب المطحونين والمستضعفين، وكتب عن الفقراء وسكان العشش والحواري، ودافع عن كرامة المصري ضد كل ظلم وقع عليه سواء كان واقعا من محتل إنجليزي أو من حاكم مستبد، كان أديباًيقف ضد قتل أحلام البسطاء وقهر الشباب وتجبر الدولة الأمنية في كل رواياته (33 رواية و19 مجموعة قصصية) ابتداء من رواية كفاح طيبة (1944)، والقاهرة 30 (1945)، مروراً بالثلاثية العبقرية بين القصرين (1956)، قصر الشوق (1957)، السكرية (1957)، واللص والكلاب (1961)، وثرثرة فوق النيل (1966)، وميرامار (1967)، والكرنك (1974)، وانتهاءً بأحلام فترة النقاهة (2004).
وطني مصري اصبحت رواياته أقرب للوثيقة التاريخية التي توثق ظرف المكان وظرف الزمان للمجتمع المصري، روايات لن تسع عقول النقاد تفنيد وطنيتها ومصريتها وانتمائها للأرض والنيل، وأذكر قديما وكنت طالباً بالمرحلة الإعدادية ولا أمتلك سوى بساطة الإدراك وطفولة العقل أن شاهدت فيلم “الكرنك” مع والدي في سينما “ريفولي” بالقاهرة عام 1975، وقد كان والدي الراحل – وهو من علماء الأزهر ودكتور في الشريعة – يحترم نجيب محفوظ ويحافظ بقدر الإمكان على متابعة كل أعماله وحتى مقالاته في جريدة الأهرام، يومها وداخل صالة العرض لاحظت تأثر أبي الشديد، كان الفيلم صدمة شديدة لجرأته السياسية والاجتماعية، ففي ظل تكميم الأفواه يخرج علينا نجيب محفوظ ليسرد لنا صارخاً وقائع الظلم والتعذيب وقهر الحاكم لشعب لا يستحق إلا كل احترام وتوقير، يسرد لنا صارخا وقائع ما كنا نحياه من غيبوبة تحت وهم الحرية والكرامة وأرفع رأسك يا أخي، كان يحكي لنا نجيب محفوظ ظلم الحاكم والدولة على المحكومين من أهل الوطن في فترة لم يجرؤ فيها غيره على التفوه بها، كان جريئا وعنيداً، وهنا يقول لي والدي: لولا نجيب محفوظ ومن هم مثله من كتابنا العظام لعاش الناس في وطننا عيشة البهائم، لا يملكون من أمر دنياهم إلا ما يأكلونه ويشربونه ولا إدراك لهم عن معنى الحرية والكرامة والعدل، فقلت لوالدي محاولاً قنص تعاطفه تجاهي وأنا ألمح مدى التأثر البادي عليه ولا أفهمه: أنا أيضا أحب نجيب محفوظ، وبينما نحن سائران لميدان العتبة لنستقل الأوتوبيس عائدين للمنزل بعد خروجنا من السينما التي كنا نراعي الذهاب إليها أول كل جمعة في أول كل شهر، وجدت أبي يصدق على كلامي متمتماً: محفوظ راجل عظيم.
وكثيراً ماكان ينتابني إيمان بأن من قرأ أولاد حارتنا قرأها وهو يحمل ضغينة مسبقاً لنجيب محفوظ ولم يفهم إشارته الأدبية والإنسانية بها وكأنه لم يكتب سواها ففهمها بحجم وعيه لا بحجم وعيها ومن ثم حكم عليها وعليه بالكفر، رغم أن هذه الرواية وكما يقول الدكتور جابر عصفور, وزير الثقافة الأسبق: “إن دار الشروق أعلنت في مطلع 2006 أنها ستنشر الرواية بمقدمة للكاتب الإسلامي أحمد كمال أبوالمجد. ونشرت بالفعل مقدمة أحمد كمال أبوالمجد التي أطلق عليها “شهادة” في بعض الصحف لكن الرواية نفسها لم تصدر إلى الآن”.
وربما تذكرني حادثة التكفير تلك بحادثة أخرى مثيرة للاهتمام حدثت في أواخر السبعينيات وكنا طلبة بالمرحلة الثانوية أو ربما في أوائل المراحل الجامعية حينما اصدر مجلس الشعب المصري قرارا بحظر بيع ونشر وتداول كتب “محيي الدين بن عربي” لأن مؤلفاته تدفع بقارئها إلى الكفر وصاحبها كافر، كنت وقتها لم أقرأ لمحيي الدين بن عربي، ولكني كنت أعرف أنه من عباقرة عصره بل ومن أكابر المفكرين الإسلاميين، ورجعت إلى والدي أسأله لكونه حجة في ذلك: هل محيي الدين بن عربي كافر؟ فأجاب إجابة عجيبة قال فيها: مشكلتنا أننا نظن أنه ما دمنا نستطيع القراءة فإنه باستطاعتنا الفهم، ومن قرأ لأبن عربي واتهمه بالكفر هو رجل محدود الوعي، ولا يؤمن أن وعيه وفهمه محدود، بل يرى أنه مبعوث العناية الإلهية للحكمة والمعرفة، ومن ثم يظن بوعيه المحدود هذا أنه القاضي العدل في الحكم على العلماء الكبار، هذا مؤمن وهذا كافر، ثم أردف قائلا: مصيبتنا يا بني أننا مجتمع جاهل، يلتهم علماءه كما تلتهم النار في لحظات فدادين القمح، فيحترق كل شيء ومن بقي بعد الحريق على قيد الحياة لن ينجو من الموت جوعاً بعد أن احترقت سنابل الخير.
لقد كان محفوظ ثائرا، كان أفضل من دافع عن ثورة 1919، وكان يعجب كثيرا بشخصية زعيم الأمة سعد زغلول. أما بالنسبة لثورة 1952، فرغم ترحيبه بها في البداية، إلا أنه انتقدها بشدة حين انحرفت التجربة الثورية عن الشعارات التي أعلنتها وظهرت فجوة عميقة بين النظرية الثورية التي آمن بها الثوار وبين تطبيقهم لهذه النظرية على أرض الواقع والتي انتهت بمراكز القوى والسحل وانتهاك الأعراض والقتل والسجون، وهنا كتب محفوظ رواية “أولاد حارتنا” وهي الرواية التي عاد بها إلى الكتابة في 1959، وكأنه كان يحذر فيها رجالات ثورة يوليو وأعوانهم بل ويحذر فيها الشعب نفسه، ولكن هذه الرواية “أولاد حارتنا” شكلت محطة ومنعطفا مثيراً في أعمال محفوظ لكثر ما أثير حولها من لغط، وبعد بدء نشر الرواية مسلسلة في صحيفة الأهرام الحكومية ابتداء من 21 سبتمبر/أيلول حتى 25 ديسمبر/كانون الأول 1959 حث بعض رموز التيار الديني المحافظ على وقف النشر استنادا إلى تأويل الرواية تأويلا دينيا يتماس مع قصص بعض الأنبياء. ومنذ ذلك الحين وقصة التكفير والاتهام بالإلحاد لا تتوقف.
وربما أتعجب من هؤلاء الناس الذين يقذفون أدب نجيب محفوظ بأنه فقط أدب يدور حول العاهرات من النساء رغم أن المرأة لم تكن أبداً في كل رواياته جسدا للمتعة أو للغواية بل كانت جزءا من المجتمع وشريكا في الثورة كما حدث في ثورة 1919، وحيث تعددت رؤية نجيب محفوظ لها حسب المراحل السياسية والاجتماعية التي مرت بها البلاد فهي في الثلاثية تختلف عنها في ميرامار أو ثرثرة فوق النيل أو الكرنك وزقاق المدق.
قمت بسؤاله مرة وكنا نحتفل بعيد ميلاده في سفينة فرح بوت عام 2005م : قرأنا كثيرا أن بسبب رواية ميرامار كان سيعتقلك عبد الناصر فهل هذا صحيح؟ انتابته لحظة تأمل كأنه ينبش في الماضي تلاها بضحكة مشاغبة ثم قال: لم تكن ميرامار ولكنها ثرثرة فوق النيل، قرأها المشير عبد الحكيم عامر فقرر اتخاذ شيء ضدي، لقد تصور انها رواية ضد الحكومة والنظام وعبد الناصر، ولكن الدكتور ثروت عكاشة – ربنا يحميه – جلس مع عبد الناصر ونبهه أننا لو أعتقلنا نجيب فلن تسكت الناس وربما تحدث مصيبة وهنا فوجئ بالسيارة التي جاءت لتعتقلني تعود من حيث أتت، ربنا يحميه ثروت عكاشة.
لاشك أن نجيب محفوظ هو الأديب الأكثر ثورية في أدبائنا العرب من ناحية نبذ السلبية ودعم النهوض للحرية سواء بذكر سير المصلحين، أو بذكر سير المفسدين وهو ما يتفق مع المغزى العام الذي ترمي إليه غالب رواياته وقصصه وأهمها حكايات حارتنا وملحمة الحرافيش، وكذلك في مجموعته القصصية المدهشة "رأيت فيما يرى النائم"، التي صدرت عن مكتبة مصر بالقاهرة سنة 1987 قبل حصوله على نوبل بعام واحد حيث يمكننا ملاحظة أربع تيمات فنية في المجموعة؛ هي إنتاجية المكان، ودلالاته الثقافية، والشخصية بين النماذج، والرؤى الأدبية الاستعارية، وإشكالية العلامة، وتعددية التأويل، والتبديل الجمالي في بنية الصور التي تتفق جميعاً في نقد الواقع السلبي والدفع للتحرر.
هذا هو نجيب محفوظ ببساطته ومصريته، نموذج صادق لمعدن الإنسان الفطري في مشاعره الراقي بسمو في وعيه وحكمته وتفكيره.
أخبار متعلقة :